بحث

واشنطن تعود إلى غزة: خطة ترامب ترسم ملامح سلامٍ محفوفٍ بالمخاطر

السبت 11/أكتوبر/2025 - الساعة: 6:10 ص

 

الحدث في ميزان الاستراتيجية

لم يكن إعلان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الخطوات التنفيذية لخطة وقف الحرب في غزة مجرد مبادرة دبلوماسية عابرة، بل حدثًا استراتيجيا يحمل دلالات عميقة على مستوى التوازنات الإقليمية وإعادة هندسة المشهد الفلسطيني برمّته.

 

الخطة التي حصلت عليها وسائل الإعلام، وتضمّنت ترتيبات دقيقة لتبادل الأسرى وفتح المعابر وضمان تدفق المساعدات، تمثل من حيث الجوهر أول تدخل أميركي مباشر لإدارة ما بعد الحرب بخطوط تماس سياسية وعسكرية، لا تقتصر على تهدئة ميدانية، بل تسعى إلى تأسيس واقع جديد في غزة يسبق أي عملية سياسية طويلة الأمد.

 

 قراءة في المضمون

تعكس الخطة محاولة لتطبيق سلامٍ ميداني مضبوط بالإيقاع الأميركي، حيث تمسك واشنطن بخيوط التنفيذ عبر وسطاء إقليميين: مصر وقطر وتركيا، بينما تبقي لنفسها موقع الضامن النهائي.

ويبدو أن واشنطن تراهن على نموذج “السلام عبر السيطرة الإنسانية”، أي استخدام الإغاثة وإعادة الإعمار كأدوات لإعادة هندسة النفوذ، مستفيدة من الإرهاق الإسرائيلي والضغط الدولي لإيقاف الحرب، ومن حاجة حماس لتثبيت دورها السياسي في مرحلة ما بعد القتال.

دلالات إقليمية

من زاوية أوسع، تمثل الخطة عودة صريحة للولايات المتحدة إلى قلب معادلة الشرق الأوسط بعد سنوات من التراجع أمام تحالفات موسكو وطهران وأنقرة.

إذ تسعى واشنطن إلى تثبيت حضورها من بوابة غزة — التي تحولت إلى عقدة الإقليم — لضبط التوازن بين الحلفاء والخصوم، ومنع تمدد التأثير الإيراني الذي تعزز بعد حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وطهران.

وفي المقابل، تبدي العواصم العربية الفاعلة (القاهرة، الدوحة، عمّان) استعدادًا مشروطًا لدعم الخطة، على أمل أن تكون مدخلاً لتثبيت وقف النار الدائم، لكنها تخشى في الوقت ذاته أن تتحول إلى نسخة جديدة من “صفقة القرن” بثوبٍ إنساني.

المآلات المحتملة

رغم ما تحمله الخطة من وعود، إلا أن المسار مليء بالألغام السياسية:

•فإسرائيل تواجه أزمة ثقة داخلية وضغطًا من اليمين الرافض لأي انسحاب غير مشروط.

•وحماس مطالَبة بتنازلات مؤلمة، أبرزها ضبط سلاحها والقبول بإشراف دولي على غزة.

•أما الفلسطينيون في الضفة، فيخشون أن يؤدي هذا المسار إلى تكريس انفصالٍ سياسي دائم بين الضفة والقطاع.

 

في ميزان المصالح، تقف الخطة بين خيارين متناقضين:

إما أن تؤسس لمنظومة إقليمية جديدة تُعيد الاعتبار للتوازن بين الأمن والسياسة، أو تتحول إلى هدنةٍ مؤقتة تمهّد لحربٍ أخرى أشدّ تعقيدًا.

 

 الخلاصة: بين الواقعية والرهان الأخير

استراتيجياً، لا يمكن قراءة خطة ترامب إلا كجزء من تحرك أميركي أشمل لإعادة بناء النظام الإقليمي بعد عقدٍ من الاضطرابات.

لكن نجاحها مرهون بقدرتها على ترجمة النصوص إلى ثقة — وبقدرة الأطراف على فهم أن السلام الحقيقي ليس في الورق، بل في الإرادة.

غزة اليوم ليست مجرد ملف تفاوض، بل امتحان للضمير الدولي، ولإرادة الشعوب في كسر دائرة الدم إلى أفق الحياة.

 

الزاوية العربية: بين الحذر والدور الفاعل

 

تتباين المواقف العربية من خطة ترامب لوقف الحرب في غزة بين الترقّب الحذر والانخراط المشروط.

فالقاهرة — التي تحمل إرثًا طويلاً في الوساطة الفلسطينية الإسرائيلية — تبدو اليوم الأكثر واقعية، إذ تدرك أن نجاح أي تسوية لن يمرّ إلا عبر بوابة الأمن الإقليمي وضمان وحدة الموقف الفلسطيني.

لذلك، تعمل مصر على تحويل الخطة من اتفاق هدنة مؤقت إلى إطار دائم لإدارة الصراع، مع التأكيد على دورها المركزي في مراقبة التنفيذ، خصوصًا في ما يتعلق بملف المعابر وضمان حرية حركة المساعدات.

 

أما الدوحة، فتتبنّى مقاربة دبلوماسية أكثر مرونة، مستندة إلى قنواتها المفتوحة مع كلٍّ من واشنطن وحركة حماس. قطر ترى أن الخطة — رغم عيوبها — تمثل نافذة لتثبيت الهدنة الإنسانية وخلق بيئة تمهّد لحوار أوسع برعاية إقليمية، شريطة أن تُصان السيادة الفلسطينية وألا تتحول غزة إلى منطقة وصاية.

 

وفي أنقرة، تتخذ المواقف منحى أكثر وضوحًا، إذ أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده مستعدة للمشاركة في أي قوة مراقبة دولية لضمان التهدئة، ما يعكس رغبة تركية في استعادة حضورها الإقليمي ضمن معادلة جديدة تقوم على حماية المدنيين وتعزيز الاستقرار دون تمكين إسرائيل من فرض واقع أحادي.

 

في المقابل، تبدي بعض العواصم العربية خشية من أن تتحول الخطة إلى آلية أميركية لإعادة تدوير الأزمة لا لحلّها. فالمشهد الراهن — كما ترى دوائر دبلوماسية عربية — يشير إلى أن واشنطن تحاول جمع أوراق النفوذ عبر مزيج من الضغط الإنساني والمناورة السياسية.

 

لكن، رغم التباين في المواقف، يجمع معظم المراقبين العرب على أن هذه الخطة — مهما كانت دوافعها — تفتح الباب أمام إعادة تعريف الدور العربي في الملف الفلسطيني، ليس كطرف ردّ فعل، بل كقوة مبادرة قادرة على فرض معادلة جديدة توازن بين الواقعية السياسية وكرامة الشعوب.

الزاوية الدولية: الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين — توازنات النفوذ وتأثيرها على مصير الخطة

 

الاتحاد الأوروبي: ضاغط دبلوماسي وراعي إنساني مع تحفظات قانونية

 

الاتحاد الأوروبي يراقب الخطة الأميركية بترقب عمليّ. دول الاتحاد ترى في وقف النار فرصة عاجلة لاحتواء الكارثة الإنسانية وإعادة فتح المساعدات، وتدعم آليات الشفافية في توزيع الإغاثة ومراقبة الامتثال لكفالة حماية المدنيين. في الوقت نفسه، تبدي بروكسل تحفظات قانونية وسياسية على أي ترتيبات تبدو وكأنها تقوّض حقوقاً دستورية أو تُرخّص لانتهاكات مستقبلية؛ لذا سيمضي الاتحاد على مسارين متوازيين: توسيع الدعم الإنساني والضغط السياسي عبر القنوات الدولية (الأمم المتحدة، المحاكم الدولية) لضمان أن تصبح أي هدنة بداية لمسار سياسي شرعي، لا غطاء لإجراءات أحادية.

 

روسيا: لاعب يبحث عن موقعٍ في لعبة النفوذ

 

موسكو تنظر إلى الخطة كفرصة لإعادة تظهير دورها كقوة فاعلة في قضايا الشرق الأوسط. روسيا لن تعارض وقف النار إن أدى لتقوية نفوذها في ملفات أوسع (سوريا، لبنان، العلاقات مع إيران)، وقد تسعى لِـ«مقايضة» دعمها بالضمانات السياسية لشراء مزيدٍ من الشرعية الجيوـسياسية. في حال شعرت موسكو بأنها مُستبعدة من ترتيبات ما بعد الحرب، فستستخدم منصاتها الدبلوماسية وشبكاتها الإقليمية للضغط من أجل شروط تراعي مصالحها وحلفاءها، ما قد يعقّد جهود التوافق الدولي حول آليات التنفيذ والتمويل.

 

الصين: الاهتمام الاقتصادي والسياسي بهدوءٍ استراتيجي

 

الصين تراقب ببراغماتية؛ تهمّها الاستقرار الإقليمي الذي ينعكس في أمن طرق التجارة والاستثمارات، لكنها تتجنّب الاندماج المباشر في عمليات حفظ السلام ذات الطابع العسكري. بكين قد تُقدّم دعماً إنسانياً أو لوجستياً محدوداً، وتفضّل الدفع باتجاه حلول سياسية عبر الأمم المتحدة. كما قد تستخدم ورقة الدعم الاقتصادي (إعادة الإعمار) كوسيلة للتأثير طويل المدى إذا رأت أن دورها يمكن أن يُترجم إلى نفوذ اقتصادي ودبلوماسي مستدام في المنطقة

متعلقات:

آخر الأخبار