معضلة الولايات المتحدة
تقرير/ وليد العناني
هل الصراع الذي يحتدم بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والثري الصناعي، إيلون ماسك، حقيقي ويعكس عمق الخلاف بينهما؟ أم أنه ملهاة يريدان منها أن تلفت الأنظار إلى كل منهما بعيداً عما يشكل نقاط ضعف أساسية في مسيرتيهما؟ لكي نسعى للإجابة عن هذا السؤال، لا بد أن نستذكر بعض الحقائق المهمة، وأولها أن الأسبوعين أو الثلاثة أسابيع الماضية قد شهدت كثيراً من القرارات الأميركية المضادة لبعض الأطراف العربية والدولية.
ومن هذه القرارات فرض عقوبات على أربعة من قضاة محكمة الجنايات الدولية، التي سارعت أوروبا إلى دحضها والترحيب بالمحكمة واستقلاليتها. والأمر الثاني، أن ترامب قد أعلن مزيداً من العقوبات على بعض المؤسسات والشخصيات الإيرانية، بسبب الإحباط الذي يشعر به حيال عدم انصياع إيران لمطلبه بوقف تخصيب اليورانيوم وقفاً كاملاً، وهو أمر ترفضه إيران، بدءاً من المرشد الإيراني علي خامنئي، وانتهاءً بأي ناطق إعلامي في طهران.
وسبق إعلان هذه العقوبات أن تسربت أخبار تفيد بأن وزارة الخارجية الأميركية التي يديرها الطامح إلى الرئاسة ونصير إسرائيل القوي، ماركو أنتونيو روبيو، قد عزل اثنين من الموظفين الموالين لرئيس وزراء إسرائيل، تعبيراً عن غضب الرئيس ترامب على نتنياهو الذي يضرب عرض الحائط بكل المطالب الأميركية. هنالك أمر غير متجانس في كل هذه الأخبار.
هل تأتي الأخبار عن خلافات بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية جزءاً من تناقض المصالح بينهما؟ أم أنها جزء من لعبة سياسية يستبقون فيها قرارات تصب في مصلحة إسرائيل أساساً؟ إن الشواهد على الأقل تقول إن من الممكن أن تتناقض الأهداف والأسس التي تبني كل إدارة منهما قراراتها عليها. ولكن هل تكفي هذه لكي تحدث بينهما شرخاً أو برزخاً من الشقاق والخلاف؟ لا أعتقد ذلك. ولكن هل يجب أن تكون الحركة الصهيونية في العالم راضية عن إدارة الرئيس ترامب وسلوكها؟
أعتقد أن العمق الصهيوني صاحب المصالح الاستراتيجية والمتحكم في مفاتيحها قد يرى بعض التهديد في استمرار الرئيس دونالد ترامب ومدرسته التي يمثلها في المجتمع الأميركي. إن معظم الذين يقفون وراء ترامب ويؤيدونه ويدعمون توجهاته هم من الطبقة الوسطى من العمال البيض الفنيين ومن أصحاب المؤسسات الصغيرة والموظفين وغيرهم. وقد تمتع هؤلاء، وبالأخص البيض، بوظائف تدرّ عليهم دخلاً يكفي لتعليم أولادهم في الجامعات وشراء منزل في الضواحي، والخروج، ولو مرة في الأسبوع، لتناول وجبة خارج المنزل، ودفع أقساط السيارة والمنزل والتأمين والكهرباء والمياه والغاز.
ولكن تجمد الأجور في زمن كانت فيه معدلات الارتفاع في الأسعار معقولة أدى إلى تراجع القوة الشرائية لدخل هؤلاء، وصاروا يرون في المهاجرين الجدد أناساً يَغْنون ويشترون بيوتاً وسيارات فارهة، ويرسلون أبناءهم إلى أحسن الجامعات الخاصة، فكان لا بد من أن يثور السؤال: إلى أين نحن ذاهبون، نحن البيض الذين حاربنا من أجل بناء الاقتصاد وازدهاره؟ والغريب أن هذا التوجه لدى البيض وجد فيه كثير من أبناء الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين ملاذاً لتعزيز هويتهم الأميركية مثل أبناء المهاجرين من كوبا وغيرها، ومن دول آسيوية مثل الهند ومن دول أفريقية، ولكن بأعداد أقل.
ولهؤلاء المهاجرين أصحاب "السلوك السوي" ومن غير المجرمين ومن غير المافيا ومهربي المخدرات والمنتسبين إلى العصابات الإجرامية رغبة في فرز أنفسهم خارج تعريف "المهاجرين المخالفين للقانون"، ولذلك، نراهم يؤيدون ترامب ويقفون خلفه. هذه الظاهرة موجودة في دول كثيرة، ولكنها كانت تشكل على الدوام قضية أميركية داخلية.
وفي الوقت الذي يتقاتل فيه المحافظون (لا يريدون الهجرة أو مع التشدد فيها) مع الأحرار أو الليبراليين (الحزب الديمقراطي) الذين يتعاطفون مع المهاجرين الجدد، فإن ديناميكيات المجتمع تجعل كثيراً من المهاجرين، وبخاصة من الجيلين الثاني والثالث، يتحولون من التعاطف مع أفكار الديمقراطيين إلى أفكار الجمهوريين. وقد بدا أن البعض من الطبقة المتوسطة قد ظنوا أن فرصهم في الحكم بدأت تتضاءل عندما زاد عدد أصحاب اللون "البني وظلاله".
وفاز الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما بالرئاسة مرتين متتاليتين، وليست مرة واحدة. ولكنهم وجدوا في ترامب ضالتهم وبَطَلهم، وعندما اصطدم أسلوب ترامب بأسلوب المحافظين من الحزب الجمهوري، بدا وكأن ترامب قد دخل انتخابات عام 2016 رئيساً لحزب ثالث، إلا أن الجمهوريين سرعان ما تداركوا الأمر، ووقفوا معه وفازوا به في انتخابات الرئاسة ذلك العام. والآن خرج علينا الملياردير إيلون ماسك يوم الجمعة الماضي، أو يوم عيد الأضحى المبارك، الموافق للسادس من شهر يونيو/ حزيران ليقول لنا إن 80% من الطبقة المتوسطة تريد حزباً جديداً، وإنه، أي إيلون ماسك، المولود في جنوب أفريقيا أيام كانت موصومة بالأبارتهايد (التمييز العنصري) يريد إنشاء هذا الحزب. فالرجل إذن لم يتخل عن فكرة البلوتوكراسي Plutocracy أو حكم الأثرياء، ولكنه يريد استخدام الطبقة المتوسطة كما فعل دونالد ترامب نفسه. فهل سينجح إيلون ماسك في مسعاه؟ إنه أغنى بكثير من دونالد ترامب.
ولذلك هدّد الرئيس ترامب يوم الجمعة الماضي أيضاً بمقاطعة الحكومة الفيدرالية لكل شركات ماسك، من تسلا إلى شركات الفضاء، إلى شركات التواصل الإلكتروني والذكاء الاصطناعي. والسبب أن ماسك، بما له من مال وفير، قادر على أن يبني له تنظيماً داعماً لسياساته على حساب الحزب الجمهوري في انتخابات منتصف الفترة القادمة، التي ستجري في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني العام القادم 2026. وإن خسر ترامب الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب، فإن قدرته على تمرير أي قانون ستتضاءل وتتراجع فرص الحزب الجمهوري في تحقيق نتائج انتخابية.
وتشير الدلائل الاقتصادية التي نراها حتى الآن إلى أن المخاوف من تراجع الاقتصاد الأميركي وزيادة المديونية والعجز التجاري أصبحت أكثر واقعية من قبل. إذن، فصراع الأثرياء مع الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة يحصل كثيراً، ويحضرني في هذا الإطار مثالان قويان: الأول حصل بين الرئيس الأميركي أندرو جاكسون، الذي دخل في معركة حامية الوطيس في النصف الأول من القرن التاسع عشر ضد مدير البنك الأميركي، والمحامي نيكولاس بيدل.
والثاني حصل في التسعينيات من القرن العشرين، حين رشح الثري الأميركي من ولاية تكساس (Ross Perot) نفسه، بوصفه رئيس حزب ثالث، وحصل على نسبة أكبر من المتوقع من التصويت الشعبي. نيكولاس بيدل كان يريد تجديد رخصة البنك الأميركي (US Bank) المرخص في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، الذي تحكم في إصدار الدولار، وتحكم بأسعار الفوائد. لكن المرشح للمرة الثانية للرئاسة الجمهورية، أندرو جاكسون، لم يكن يحب البنوك، وعارض فكرة التجديد لرخصة البنك. وتحولت المعركة الانتخابية عام 1836 إلى معركة حامية بين جاكسون وبيدل.
ولما فاز جاكسون بالرئاسة، عمل "فيتو" ضد تجديد الترخيص للبنك. أما روس بيرو، الذي رشح نفسه للانتخابات الرئاسية عام 1992، فلم يسعَ لتأسيس تنظيم حزبي يدعمه، ولكن نزل مرشحاً ثالثاً ضد المرشح الديمقراطي الجديد والحصان الأسود للانتخابات، وهو بيل كلينتون، والرئيس الجمهوري المعاد ترشيحه، جورج بوش الأب، الذي خسر الانتخابات لصالح كلينتون.
من الذي سيقف وراء ماسك لو سعى لإنشاء حزب يكون هو فيه صانع الرؤساء، لأنه لا يستطيع بموجب الدستور الأميركي أن يرشح نفسه للرئاسة بسبب ولادته خارج الولايات المتحدة؟ هل يستطيع أن يجمع القوى حوله لتعديل الدستور الذي تنص الفقرة الـ (5) من القسم الأول من المادة الثانية فيه على شروط من يستطيع أن يرشح نفسه للرئاسة، وهي أن يكون من نال المواطنة بحكم مولده في الولايات المتحدة، وأن يكون قد أتمّ عامه الخامس والثلاثين، وأن يكون قد أمضى مدة إقامة لا تقلّ عن 14 سنة داخل الولايات المتحدة؟ بالطبع، فإن الشرطين الأخيرين ينطبقان على إيلون ماسك.
أما شرط الولادة والجنسية، فلا ينطبق عليه، إلا إذا عُدِّل في الدستور. ولكن الأمر ليس سهلاً على الإطلاق. ويستقرأ من تاريخ من سعوا للخروج عن نظام الحزبين أنهم فشلوا في هذا المسعى، وقد يكون هذا مصير إيلون ماسك، ولكن تأثير ماسك في فرص فوز الحزب الجمهوري لا يمكن الاستهانة به إذا فشلت سياسات الإدارة الحالية في تحقيق الإنجازات التي وعدت بها، والتي لا تبدو أنها قد تتحقق بشكل مقنع حتى الآن.
وإذا نجح ماسك في اكتساب التأييد الصهيوني له، فإن الأمور قد تنفلت خلال فترة العام ونصف العام القادمة، وسيكون الرئيس ترامب بطة عرجاء (Lame duck)، إشارة إلى أنه لن يخدم بصفة رئيس سوى ما تبقى من فترته الحالية، التي سيكون خلال نصفها الثاني مشلول الإدارة حيال الكونغرس الأميركي.
تذكرنا الولايات المتحدة بالفترة التي مرت فيها قبيل الحرب الأهلية التي بدأت عام 1861 وانتهت عام 1863، والتي كان الدافع الأساسي وراءها المصالح الاقتصادية المتضاربة بين الصناعيين، من ناحية، والمزارعين من ناحية أخرى. الصناعيون يريدون فرض الجمارك، والزراعيون يريدون فتح الأسواق، وها هي المعركة تجدد نفسها بعد أكثر من 160 سنة، ولكنها بين الصناعيين، من ناحية، وتجار الخدمات الإلكترونية والتكنولوجية المتطورة، من ناحية أخرى.