"حفلة الإنس والشياطين" الفخراني يواصل التحليق بعيداً عن الواقع
بحرالعرب_متابعات:
في مجموعته القصصية الأحدث «حفلة الإنس والشياطين»، الصادرة في القاهرة عن «دار العين»، يواصل الكاتب المصري محمد الفخراني التحليق بعيداً عن الواقع، ليطل على العالم من مسافة تسمح له بإعادة تشكيله وإنتاج مفرداته، وخلق عوالم بديلة، متصلة بدرجة ما بما هو واقعي، لكنها منزاحة عنه بالدرجة نفسها، عبر الاتكاء على نزوع غرائبي، يحول عوالم قصصه ورواياته إلى عالم عجائبي، مستفيداً من إرث حكايات ألف ليلة وليلة، كأنه يعيد الاتصال بإرث الحكايات الشعبية التي تكسر الفواصل بين الواقعي والمتخيل. وعادة ما يؤسس الفخراني سردياته على الوقوف في منطقة التخوم بين نقيضين، السماء والأرض، الحياة والموت، مقيماً تصالحات بين أطراف هذه الثنائيات التي تبدو متناقضة، ومع ذلك يؤسس مساحة مشتركة من التواصل والحوار بينها.
في هذه المجموعة يبني الفخراني عالما يتآخى فيه الإنس والشياطين، ويعيشون في حالة سلام ومحبة، قافزاً على موروث الصور الذهنية عن الشياطين؛ إذ يؤنسنهم، ويستأنسهم، ويمنحهم أجساداً وأرواحاً وعقولاً وقلوباً، فيتعايشون مع البشر، ويصيرون جيرانهم وأصدقاءهم، وتنشأ بين أبناء العالمين علاقات صداقة، وقصص حب، وأحياناً إعجاب بإنجازات الطرف الآخر، أو غِيرة منها، لكنها ليست غيرة قاتلة، أو بالمعنى السلبي، بل دافعة للتسابق على الإنجاز، أو الشعور بامتنان الشياطين تجاه إنجازات البشر، كما نرى على لسان الشيطانة الساردة في «قصة الشغف»؛ إذ تقول: «الشغف، لو أن الإنس لم يخترعوا أو يكتشفوا غير هذه الكلمة فأنا ممتنة لهم. نحن الشياطين كنا نشعر بمشاعر قوية تجاه الأشياء، نحبها، ونرغب فيها، ولا نعرف بما نسمي هذا الشعور القوي، حتى أسماه الإنس: الشغف».
تتكون المجموعة من 10 قصص، كلها يحدث فيها هذا المزج بين العالمين، الإنس والشياطين، بحيث يولد بينهما نوع من التطبيع، والمؤانسة. وعلى عكس «رسالة الغفران» للمعري، و«الكوميديا الإلهية» لدانتي، التي يتابع فيها الراوي صعود البشر إلى العوالم الأخرى؛ حيث الآخرة والجنة والنار، نرى في هذه الحفلة تجسُّد الشياطين في صور بشرية عادية، ووجودهم على الأرض وفي الأسواق والشوارع وحتى في مدن الملاهي، يمرحون مع البشر، ويعانون مثلهم، بل أحياناً يكونون أكثر مثالية من الإنسان، كما نرى بقصة «في بيت سلوى لطيف»، الشيطانة التي تكتب الشعر، ولديها مكتبة ضخمة ممتلئة بالروايات والأشعار، وتطبخ لضيفها الإنسي صديق زوجها، وعندما كان زوجها وصديقه الإنسي يتمشيان في السوق، ووجدا حافظة نقود ملقاة، كان الشيطان أكثر حرصاً على العثور على صاحبها وإعادتها له، بينما قال الإنسي إنه لا داعي لهذا المجهود، وما داما وجداها في الطريق فليقتسما ما فيها بينهما.
في كل قصص المجموعة، وكعادة الكاتب في كثير من أعماله الأخيرة، لا يوجد تحديد لمكان أو زمان؛ فالفضاء المكاني عائم وغائم. ما نعرفه عنه أنه فضاء مديني فقط، بوصف هذا الفضاء هو القادر على استيعاب التنوع، والدمج بين المختلفين، لا يهم في أي مدينة، لا يهم إن كانت عربية أو غربية، لكنها مدينة حديثة، وهذا ما يتبدَّى من وصف الشوارع والمحلات، وكذا مدن الملاهي، ومسرح «الاستاند أب كوميدي». وإذا كان هذا حال الفضاء المكاني، فإن الفضاء الزماني سائل وعائم هو الآخر، باستثناء الزمن الطبيعي من نهار وليل، لكن لا وجود مرجعي تاريخي تُحال إليه البنية الزمنية، وإن كان ثمة إشارات تأتي عبر أنماط الأزياء؛ فالأبطال يرتدون الجينز، ما يشير إلى أنه زمن معاصر. وفضلاً عن هذه السيولة والتجهيل الزماني والمكاني، فهناك أيضاً تغييب لأسماء الشخصيات، باستثناء قصة «في بيت سلوى لطيف»، فلا شخصيات لها اسم محدد، وحتى في هذه القصة، فإن الراوي البطل (الإنسي) بلا اسم، في مقابل منح الشياطين أسماء. هذا التغييب المرجعي للمكان والزمان والأسماء، يمنح القصص بعداً إنسانياً عاماً، ويجعلها أشبه بأمثولات رمزية كونية تعيد إنتاج سردية المحبة والتنوع والتعايش بين الفرقاء التاريخيين، قابلة لأن تكون في أي زمان وأي مكان.
الفخراني، الحائز على كثير من الجوائز، ومنها جائزة معهد العالم العربي في باريس عن روايته الأولى "فاصل للدهشة"، يواصل في هذه المجموعة نزوعه نحو المغامرة والتجريب، ولكنه ليس تجريباً شكلانياً، بل في جوهر العوالم التي يعيد تشكيلها، تجريب في مفهوم القصة وشخوصها وألعابها الداخلية، فمثلاً في القصة الأولى: "أغنية التسكع"، لا نعرف على وجه التحديد ماهية البطل، ولا ملامحه ولا تاريخه، ولا حتى إذا كان إنسياً أو شيطاناً، لكنه أقرب إلى كاميرا متجولة، عين تحدق في العالم وتفاصيله، وترصد كل ما يقع من أحداث عابرة في شوارع وسط المدينة وأزقتها، فلا حدث مركزي، ولا عقدة أو حل، بل محض تجوال و"تسكع"، يعيد فيه الراوي اكتشاف جمال الوجود، حتى فيما يبدو للوهلة الأولى قبيحاً، مثل الشحاذين والمشردين والمجاذيب.
في هذه المجموعة، يعتمد الكاتب على استراتيجية اللعب، فالقص لعبة فنية وجمالية، والحكاية درجة ما من مشاغبة العالم وإعادة اكتشاف الوجود، حتى إن واحدة من أهم قصص المجموعة عنوانها (اللعب مستمر)، وتتأسس على لعب الشخصيات، وهما زوج وزوجة، مع أعمارهم؛ إذ يكبرون فجأة عبر ممارستهم مجموعة من الألعاب، ويقفزون من عمر العشرينات إلى السبعينات، ثم يواصلون هذا القفز واللعب في ساحة الزمن بأعمارهم، بين سن المراهقة والثلاثينات والستينات، مع ما يتبعها من تحولات في بنية الجسد، بل يتحول الزوج في إحدى هذه الألعاب إلى كانجرو، في نزوع ليس فقط نحو تجريب الوجود في أعمار سنية مختلفة، ولكن أيضاً في أجساد كائنات مختلفة، والقدرة على السعادة والإحساس بالحب في هذه الحالات كلها. إن اللعب هنا ليس مجرد موضوع حكائي، أو تيمة داخل القصة، لكنها استراتيجية سردية وجمالية يتبعها الكاتب في المجموعة القصصية، بل في كثير من أعماله السابقة روائياً وقصصياً؛ فالسرد والفن لديه حالة من اللعب مع اللغة ومع العالم، بحثاً عن جمال الوجود، ومتعة الحكي.