شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
محمد مشعجل …
بلبل المهرة وسفير الأغنية اليمانية الخالدة
في لحظة موجعة من لحظات الفقد، انطفأ صوتٌ حمل بين طبقاته نقاء البحر وصفاء الصحراء وعذوبة الريح في جبال اليمن .
رحل محمد مشعجل، أحد أبرز الأصوات المهرية النادرة، تاركاً خلفه فراغاً واسعاً لا تملؤه إلا ذكريات أغانيه، ورنين عوده الذي ظلّ حتى آخر لحظة يشدو بالأصالة والهوية .
أجل في حادثٍ جلل تقاطعت فيه الدهشة بالحزن، انطفأ قنديلٌ كان صوته يشبه المرافئ البعيدة؛ يحمل في طبقاته زرقة البحر المِهري، ووهج الصحراء الممتدة، وارتعاشات الريح وهي تعانق جبال اليمن الشامخة .
رحل محمد مشعجل، بلبل المهرة وسفير الأغنية اليمانية، تاركاً فراغاً يتجاوز حدود السمع ليبلغ تخوم الروح .
لم يكن غناؤه ترانيم مشحونة بالفرح والحزن والموسيقى، بل كان ذاكرةً جمعية تُعيد إلينا طفولة نقية، وأحلاماً مؤجلة، وشجناً يتقطر كالعطر في وجدان من أصغى إليه .
ومع رحيله، لا يختفي الصوت بقدر ما يتحول إلى إرث خالد، يذكّرنا بأن الفن الحقيقي لا يموت، بل يواصل التحليق ولو غاب صاحبه عن الدنيا .
رحل محمد مشعجل، لا كفنان عابر، بل كذاكرة حية لوطنٍ بأكمله، وكجسرٍ يربط الإنسان بصفائه الأول، حين كان الغناء صلاةً، والموسيقى وطناً آخر يتّسع للقلوب المتعبة .
لقد كان صوته لوحةً من النقاء والحنين، يسكب الشجن كما يُسكب الضوء، ويمزج بين أنين العود وبهاء القانون في سيمفونية لا يشبهها شيء .
برحيله، لا ينطفئ نجمٌ فحسب، بل يخبو فصلٌ كامل من السردية اليمانية، ليبقى أثره وحنينه يحومان في الذاكرة كطائرٍ لا يموت .
ابن المهرة …
الذي صار أيقونة
وُلد محمد مشعجل في رحاب محافظة المهرة، تلك الأرض التي تمتد بين البحر والصحراء، وتنبض بذاكرةٍ عميقة تُغوي الشعراء والفنانين منذ الأزل .
منذ نعومة أظفاره، نسج مشعجل من نسمات الريح وأمواج البحر وعبق الصحراء مخزوناً فنياً فريداً، احتضنته روحه، فصار الصوت والهوية مرآة واحدة .
لم يكن مجرد مؤدٍ للأغنية المهرية؛ بل كان المرآة الصافية لها، واللسان الذي يتحدث باسمها، والسفير الذي يحملها إلى أرجاء اليمن وكافة البلدان العربية .
في كل نغمة، في كل شجن، كان ينسج جسوراً بين التراث والروح، بين الماضي والحاضر، ليصنع من صوته أيقونة خالدة تتجاوز حدود المكان والزمان .
صوت …
يتجاوز المدى
صوت محمد مشعجل لم يكن مجرد صوتٍ عذب، بل كان هويةً متجسدة، وذاكرةً حيّة للأرض والإنسان .
في كل نغمة، كان مستودعاً للشجن ووعاءً للحنين، كأنما يهمس بما لم يُقال ويغني ما لم يتحقق .
تسمعه فتشعر أن طفولتك الضائعة تستعيد أنفاسها، وأن أحلامك المؤجلة ترفرف أمامك بألوانها الكاملة، وأن جراحك تتدفّق موسيقى تهدئ الألم وتنعش الروح .
لذلك، لم يكن جمهور محمد مشعجل مجرد مستمعين، بل كانوا رفقاء رحلة وجدانية يجدون في صوته ذاتهم وذكرياتهم ولذّتهم وألمهم، في تجربة فنية تتجاوز كل حدود، وتدخل مباشرة إلى القلب والوجدان .
مزاوجة …
الآلة والروح
في كل حفلة، وفي كل جلسة، كان المشهد يتحول إلى لوحة موسيقية حيّة، حيث يتماهى العود مع القانون كما لو كانا يتحدثان لغةً واحدة، وينساب الإيقاع برقةٍ تحاكي نبض القلب، فيما يرتفع صوته فوق كل شيء كطائرٍ فريد يشقّ فضاء الروح .
كانت هذه المزاوجة الدقيقة بين العزف والغناء أصالة وفنّاً وروحاً، تجعل منه أكثر من مجرد مطرب؛ كان مدرسة قائمة بذاتها، وسفيراً للتراث المهرّي، ومُجدداً للهوية الموسيقية اليمنية بلمسة معاصرة، قادراً على أن يحول أي صمت إلى طرب ينبض بالحياة، وأي لحظة إلى ذكرى خالدة لا تنسى .
إرث …
يتحدى النسيان
رحيل محمد مشعجل ليس مجرد غيابٍ جسدي؛ إنه امتحان للذاكرة الجمعية لليمنيين، وإشعار بفقدٍ يتجاوز الفرد ليصل إلى روح الأمة .
إرثه الفني والوجداني يفرض علينا أن نعيد اكتشاف الأغنية المهرية ليس كفنٍ عابر، بل كجزء أصيل من الهوية اليمنية الجامعة، كنبضٍ يربط الماضي بالحاضر، والجمال بالانتماء .
لقد أعاد مشعجل الاعتبار لصوت الجنوب، مثبتاً أن الفن قادر على كسر حدود الزمان والمكان والسياسة، وأن الهوية الغنائية اليمنية أوسع من أي اختلاف، تتسع لكل لهجاتها وألوانها، وتحتضن تنوعها الغني. إرثه ليس مجرد أغاني تُستمع، بل حياة تُعاش وروح تُستلهم لكل من يبحث عن جمالٍ صادق وحنين أصيل .
وداعٌ …
لا يُنسى
مع رحيل محمد مشعجل, يغادرنا ليس فقط صوت، بل حضرة كاملة من الجمال والهوية والروح .
تبقى نغماته كما النوافذ المفتوحة على ذاكرة الأرض والإنسان، كما رائحة البحر والريح والصحراء التي حملها في صوته .
لقد ترك خلفه إرثاً يذكّرنا بأن الفن الحقيقي لا يموت، وأن الأصالة قادرة على العبور فوق كل الغيوم، لتبقى حاضرة في القلوب قبل الآذان .
برحيله، يفقد اليمن فناناً استثنائياً، وتفقد المهرة أحد أنقى أصواتها، ويفقد المستمع العربي نافذةً نادرة على فنّ ظلّ مهمشاً طويلاً .
لكن العزاء الأكبر أن محمد مشعجل لم يمت؛ فالفنان يموت حين يُنسى، ومشعجل محفور في وجدان شعبٍ بأكمله .
رحيله مؤلم، لكن صوته باقٍ، يرفرف في أزقة اليمن وقلوب المهرة، كطائر لا يهدأ، كنجمة لا تنطفئ، وكهمسة حنين تستمر في استدعاء الحكايات والأحلام والجمال .
ستظل أغانيه تُتلى كما تتلى قصائد الحكمة، وستبقى نبرته الشفافة تذكّرنا بأن في اليمن ما يستحق الحياة وما يستحق الغناء
محمد مشعجل لم يرحل حقاً؛ فقد أصبح خالدًا في كل لحن، في كل وتر، وفي كل نفس يتنفس عشق الموسيقى والهوية اليمانية المجيدة .