بحث

من تحت الركام ... منتخب اليمن للشباب يكتب فصلاً جديداً من الأمل

مصطفى بن خالد

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

من تحت الركام ...
 منتخب اليمن للشباب يكتب فصلاً جديداً من الأمل

في وطنٍ أنهكته الحروب وتكسرت على أطرافه خرائط الانقسام، حيث يثقل الرماد الصدور وتُحاصر العيون مشاهد الخراب، ينبثق منتخب اليمن للشباب كمعجزةٍ صغيرة تُذكّرنا أن الأمل لا يموت .

 من بين الركام والدمار، خرج هؤلاء الفتيان ليضيئوا سماءً أثقلها الدخان، ويحوّلوا المستطيل الأخضر إلى مساحةٍ تتجاوز الرياضة، لتغدو ساحةً تُكتب فيها ملحمة وطن بأكمله . 

لم تكن مباراة نصف النهائي أمام عُمان مواجهةً عابرة، بل كانت فصلًا جديدًا من تاريخ اليمن الحديث : 
مواجهة بين حياةٍ تُصرّ على النهوض وموتٍ يتربّص بكل التفاصيل، بين انكسارٍ طويل ونهضةٍ تتشكّل بأقدامٍ فتية تحمل أكثر مما تحتمل أعمارها .

أقدام … 
تصنع المعجزة

بخطى واثقة تتجاوز أعمارهم الغضّة، دخل الفتيان اليمنيون الملعب وكأنهم يحملون وطنًا بأكمله على أكتافهم . 
العشب الأخضر تحوّل تحت أقدامهم إلى مسرحٍ للحلم، حيث تماهت المهارة مع الشغف، وامتزجت الدموع بالعرق في معركة أكبر من مجرد مباراة . 

هناك، دوّى اسم البرواني حين خطّ أول أهدافه، فاهتزّت القلوب قبل أن تهتزّ المدرجات، ليزرع في النفوس يقينًا بأن المستحيل يمكن أن ينحني أمام العزيمة .
 ثم جاء صخر السقلدي، ليُثبّت بالهدف الثاني ملامح معجزة تتشكل، ويهدم بجسارته جدار آمال الخصم، فاتحًا لليمن بابًا مشرّعًا نحو نهائي البطولة الخليجية الأولى للشباب .

ثنائية في رصيد الأهداف، لكنها في المعنى أعمق من الأرقام؛ كانت بمثابة إعلان مدوٍ بأن اليمن، رغم ندوب الحرب وجراحه النازفة، لا يزال قادرًا على النهوض، وأن الإرادة حين تُشعلها أحلام جيلٍ جديد، تصبح أقوى من كل الحصار والانكسارات .

أبعد …
من كرة القدم

ما جاد به المنتخب اليمني في هذه البطولة لم يكن مجرد انتصارٍ رياضي يُسجَّل في دفاتر النتائج، بل كان حدثاً يتجاوز حدود الملعب إلى فضاءات أوسع، أشبه بلحظة وطنية نادرة تردم ما حفرته سنوات الحرب والانقسام .
 لقد منح هؤلاء الفتيان شعبهم ما هو أعمق من الفرح العابر : 
لحظة تَوحّد فيها الصوت اليمني من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من جبال صعدة وصحراء مأرب والجوف وشبوة إلى سواحل عدن، أبين، من حضرموت الشرقية إلى تهامة في الغرب .

تحت راية واحدة، ذابت المسافات التي صنعتها السياسة، وتبدّدت الجدران التي بناها الصراع . 
فجأة، صار الجميع يمنيين فقط، يصرخون باسم واحد، ويلتحفون علماً واحداً . 
وهكذا أثبتت كرة القدم أنها ليست مجرد لعبةٍ تسلية، بل جغرافيا بديلة للوطن، جغرافيا تُعيد رسم خارطة الانتماء بألوان الأمل، وتفتح أبواب الحلم أمام جيلٍ يبحث عن معنى جديد للانتصار .

رسالة …
 إلى العالم

في كل تمريرة تُنسج بخيوط الشغف، وفي كل هدف يُولد من رحم العزيمة، بعث هؤلاء الفتيان رسالةً تتجاوز حدود الملعب لتبلغ أسماع العالم :
 اليمن ليس مجرد خبرٍ يتصدّر نشرات عن حربٍ وخراب، بل وطنٌ يصنع الحياة رغم أنف الموت . 

لقد أعادوا صياغة صورة بلدٍ عانى طويلاً من التشويه والتهميش، ورسموا بعرقهم وجُهدهم لوحةً تُثبت أن تحت الركام هناك جذوة لا تنطفئ، وأن في قلوب أبنائه طاقة تصرّ على البقاء والنهوض .

بهذا الأداء، فتح منتخب الشباب نافذةً مشرّعة للأمل في جدارٍ طالما أغلقته المآسي، وذكّر الجميع بأن اليمن ليس عنواناً للفقد فحسب، بل حكاية عن إرادة تتجدد، وأمةٍ تعرف كيف تنهض كلما أرادت الحياة أن تختبرها .

الشباب اليمني …
من الملعب إلى طاولة الحوار

إن نجاح منتخب الشباب في بلوغ نهائي كأس الخليج لا يقتصر على الأبعاد الرياضية فقط، بل يحمل رسالة قوية للعالم : 
الشباب اليمني قادر على توحيد الإرادة الوطنية وإعادة الأمل إلى بلدٍ أنهكته الحروب .

في هذه اللحظة التاريخية، يدعو هؤلاء الشباب جميع الأطراف المنخرطة في الصراع إلى الاستجابة لدعوتهم، والعمل بكل الوسائل لإعطاء فرصة للشباب للعب دور فعّال في تحقيق السلام . 

يجب أن يكون هناك حوار يمني مستقل يضم شباب كل الأطراف، يجلسون على طاولة واحدة لصياغة سلام عادل وشامل، بعيدًا عن النفوذ الخارجي والانقسامات الداخلية .

لقد أثبت هؤلاء الفتيان أن اليمن قادر على النهوض، وأن المستقبل يمكن أن يُكتب بيد شبابه، وأن دعم المجتمع الدولي لتوفير الفرصة لهم ليس رفاهية، بل ضرورة لإنهاء مأساة مستمرة وبناء وطن على أسس العدالة والوحدة والأمل .

موعد …
مع التاريخ

الآن يقف منتخب اليمن للشباب على عتبة التاريخ، حيث لا تُقاس المباريات فقط بنتائجها، بل بما تحمله من رمزية ومعنى . 
مواجهة النهائي ليست مجرّد امتحان كروي، بل فصل جديد يُكتب في ذاكرة وطنٍ أنهكته المآسي، فإذا به يجد في أبنائه الشباب بشارة قيامة جديدة .

قد ينتهي اللقاء بكأسٍ مرفوعة أو بميداليات فضية، لكن ما تحقق حتى اللحظة يفوق بريق المعادن وأحجام الكؤوس : 
إنجازٌ أهدى اليمن ابتسامةً غابت طويلاً، وأعاد للأمة ثقتها بأن أحلامها لا تزال قادرة على أن تتحقق .

 هؤلاء الفتيان لم يُحرزوا أهدافاً في مرمى الخصوم فحسب، بل أحرزوا نصراً معنوياً في مرمى اليأس ذاته .

إنهم جيلٌ يُعلّم العالم أن تحت الركام يولد الأمل، وأن من بين الدمار يمكن أن يخرج وطنٌ يكتب حياته من جديد . 

وفي كل خطوة يخطونها نحو النهائي، يخطّون في الوعي الجمعي حقيقةً لا تُمحى :
 اليمن حيّ، وسيظل حيّاً، ما دام شبابه يصنعون من كرةٍ صغيرة وطناً كبيراً، ويطالبون بالسلام الذي يستحقه الجميع .

آخر الأخبار