شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
الدولة كواجهة ... والاقتصاد كغنيمة :
من يحاسب من ؟
لم يعد الفساد في اليمن مجرّد انحراف إداري أو سوء إدارة مالية يمكن إصلاحه عبر لجان تحقيق شكلية أو بيانات تلطيفية تُسكّن الغضب العام .
إنّ ما نعيشه اليوم أعمق بكثير من ذلك :
نحن أمام تحوّل بنيوي خطير حوّل الدولة من إطار جامع لمصالح الناس إلى واجهة باهتة لإمبراطوريات مالية متغوّلة، صارت تُدير موارد البلاد بمنطق الغنيمة لا بمنطق الدولة .
لقد تحوّلت المؤسسات، في بنيتها ووظيفتها، إلى أدوات لنهبٍ ممنهج تستفيد منه نخب نافذة، فيما صار المواطن العادي الحلقة الأضعف في معادلةٍ جائرة لا مكان فيها للعدالة أو الكرامة .
وهكذا غدت الشرعية السياسية غطاءً هشاً لفساد متوحش، وبدلاً من أن تكون الدولة مظلة للناس، أضحت جداراً عازلاً يحمي الفاسدين من المساءلة، ويترك الشعب عارياً أمام جشع لا يعرف سقفاً .
نصف الدولة ...
نصف الشركات
منذ العام 2015، وُلدت في اليمن طبقة هجينة لا هي سلطة خالصة ولا هي طبقة رأسمالية طبيعية، بل مزيج مُشوَّه يجمع بين القرار السياسي والمال المنهوب. وزراء، قادة عسكريون، نافذون سياسيون، تحوّلوا تدريجياً إلى مستثمرين مباشرين في قطاعات اقتصادية حيوية :
• البنوك وشركات الصرافة التي باتت خزائن شخصية لإعادة تدوير المال العام .
• المدارس الخاصة والجامعات الاستثمارية التي تحوّلت إلى منصات لابتزاز المواطن في حقه بالتعليم .
• المستشفيات الاستثمارية التي صارت سلعة تُباع خدماتها للمرضى بأثمان باهظة في بلد يئن تحت وطأة الفقر .
• المطاعم والفنادق وشركات الأدوية والوكالات التجارية، وكلها لم تُبنَ على أسس إنتاجية، بل على ريع السلطة ونفوذها .
بهذا الشكل، لم تعد لدينا دولة تفصل بين وظيفة الحكم ومنطق السوق، بل دولة متحوّلة إلى شركة قابضة يديرها تحالف من المنتفعين .
نصف السلطة صار شركة، ونصف الشركات صارت سلطة .
هذه البنية الهجينة دمّرت قواعد الاقتصاد، وألغت التنافسية الطبيعية، وخلقت اقتصاداً طفلياً محمياً بالسلاح والنفوذ لا بالقانون ولا بالإنتاج .
إن أخطر ما في هذه الظاهرة أنّها أعادت تعريف الدولة نفسها :
لم تعد الدولة إطاراً سيادياً لخدمة الناس، بل تحوّلت إلى “ماركة تجارية” محصورة في أيدي قلة، تُوظَّف شعارات السيادة والشرعية والديمقراطية كغطاء خارجي لإدارة استثمارات خاصة بواجهة وطنية .
لم يعد هؤلاء المسؤولون وجهاً سياسياً يمثّل إرادة الناس أو يعكس ملامح الدولة، بل تحوّلوا إلى مستثمرين متخفّين في أزياء السلطة .
إنهم يُمسكون بمفاصل القرار السيادي من جهة، ويسيطرون على شرايين الاقتصاد من جهة أخرى، في ممارسة هجينة لا تسمح بقيام دولة ولا باقتصاد طبيعي .
النتيجة الفادحة لهذا التماهي أنّ الحدود بين المال العام والمال الخاص قد تلاشت تماماً، فلم يعد ممكناً التمييز بين خزينة الدولة وحسابات الأفراد النافذين .
اختفت الدولة ككيان سيادي مستقل، وحلّت محلها واجهة شركاتية صلبة تُدار بمنطق السوق الأسود، وتُستخدم شعارات الشرعية والسيادة كغطاء خارجي لتدوير رأس المال المنهوب .
بهذا المسار، لم تعد الدولة إطاراً جامعاً لمصالح الشعب، بل تحوّلت إلى شركة قابضة يُديرها تحالف من المنتفعين، حيث تُختزل السلطة إلى استثمار خاص، ويُختزل المواطن إلى مجرد زبون أو مدين أبدي في سوق لا يعترف لا بالعدالة ولا بالسيادة .
من يحاسب من؟
في مشهدٍ كهذا، يغدو النداء التقليدي: «حاسبوا المسؤولين» محض سذاجة سياسية وسوء تقدير لطبيعة البنية الحاكمة .
فالمسؤول هنا ليس مجرد موظف عام قابل للمساءلة، بل هو ذاته المالك والمستثمر والمشرّع والرقيب . تتداخل الأدوار في شخص واحد :
الوزير رجل أعمال، والقائد العسكري شريك تجاري، والسياسي مالك لوكالات وصرافات .
أي معنى للعدالة يمكن انتظاره حين يصبح القاضي شريكاً في السوق التي يُفترض أن يحاكمها ؟
وأي إصلاح يُرجى حين يشرّع الحاكم قوانين تُفصَّل على مقاس مصالحه الخاصة ؟
إننا أمام دائرة مغلقة من السلطة – السوق، حيث تتحوّل أدوات الدولة من وسائل للحكم العادل إلى أذرع لحماية شبكات النفوذ .
في مثل هذا النظام، لا وجود لمفهوم “المساءلة” إلا كشعار للاستهلاك الإعلامي، لأن البنية الحاكمة ذاتها صُمّمت لتكون محصّنة ضد أي محاسبة .
ولذا فإن سؤال «من يحاسب من؟» ليس مجرد استنكار، بل هو تشخيص دقيق لاستحالة الإصلاح من الداخل، ما لم يُكسر هذا التماهي البنيوي بين السلطة والمال .
المرض …
أصاب الرأس مباشرة
إن المرض لم يتسلل إلى الأطراف أو يتوقف عند الهوامش، بل أصاب الرأس مباشرة؛ أي مركز القرار ومحرّك الدولة .
وحين يضرب العطب الدماغ، لا تعود باقي الأعضاء سوى امتدادٍ لعجزه .
بهذا المعنى، لم يعد الخلل في جهاز إداري يمكن إصلاحه، بل في جوهر البنية الحاكمة نفسها :
القيادة التي يُفترض أن تكون مصدر التعافي أصبحت مصدر الداء، والسلطة التي كان يفترض أن تحمي المجتمع تحوّلت إلى أخطر تهديد لوجوده .
اقتصاد حرب …
دولة بلا دولة
لقد انزلق اليمن، خلال سنوات الحرب، إلى ما تصفه أدبيات العلوم السياسية بـ اقتصاد الحرب؛ حيث تتحوّل الفوضى من عَرَض جانبي للنزاع إلى سلعة مُربحة لقوى النفوذ .
هنا، لا تسعى السلطة إلى إنهاء الحرب، بل إلى إدامتها، لأن استمرارها يغذي شبكات مصالح معقدة :
عسكرية، مالية، وتجارية .
في هذا السياق، تفقد مؤسسات الدولة معناها الأصلي كأدوات سيادة عامة، وتتحوّل تدريجياً إلى حواجز حماية لرأس المال الخاص .
الوزارات، البنوك، الأجهزة الأمنية، بل وحتى التشريعات، لم تعد تعمل وفق مبدأ “خدمة الصالح العام”، بل وفق قاعدة “ صيانة مصالح الممسكين بالسلطة ”.
هكذا أصبح الوطن رهينة منظومة هجينة :
نصفها حكومة على الورق، ونصفها شركات على الأرض. دولة بلا دولة، حيث تتحوّل السيادة إلى شعار، والمؤسسات إلى واجهات، والشعب إلى وقود دائم لإعادة إنتاج اقتصاد الفوضى .
الكارثة …
الأخلاقية
إن أخطر ما يواجه اليمن اليوم ليس فقط الانهيار الاقتصادي أو العجز الإداري، بل الانهيار الأخلاقي الشامل .
الفجوة هنا ليست أرقاماً جامدة في تقارير مالية، بل فجوة إنسانية تُدمّر روح المجتمع :
نخب مترفة تعيش في الفلل الفاخرة، تتنقّل بين العواصم العالمية في رحلات سياسية وسياحية، وإقامة دائمة لعائلاتهم وأولادهم يدرسون في أعرف المدارس والجامعات، بينما الجنود يتركون بلا رواتب، والمعلمون بلا أجور، والمرضى يموتون أمام أبواب المستشفيات التي يملكها “ المسؤول نفسه ”.
هذه المفارقة القاسية تكشف أن المأساة لم تعد في سوء الإدارة أو ضعف الدولة، بل في تجريد الدولة من معناها الأخلاقي .
حين يفقد المواطن إحساسه بأن السلطة وُجدت من أجله، وحين يرى بأم عينه أن المسؤول الذي يشرّع له القوانين هو نفسه الذي يحتكر الدواء ويستثمر في التعليم والصرافة، فإن النتيجة الطبيعية هي تآكل الانتماء وانهيار الرابط الوطني .
إنها الكارثة الأخلاقية التي لا تُقاس بالعملة أو الميزانية، بل تُقاس بانهيار القيم الجماعية، حيث تتحول الدولة من كيان جامع إلى آلة لامتصاص دماء الناس، ويصبح الوطن مجرد ساحة استثمارية مغلقة لصالح نخبة بلا ضمير .
نحو كسر …
تحالف السلطة – المال
إذا كان التشخيص واضحاً، فإن التحدي الأكبر يكمن في كيفية مواجهة هذه المنظومة الهجينة التي دمجت بين القرار السياسي ورأس المال الخاص .
إن أي استراتيجية وطنية جادة لا بد أن تقوم على مسارات متوازية، تتكامل لتفكيك البنية التي جعلت من الدولة شركة ومن السلطة غنيمة :
1- كشف الحقيقة للرأي العام
لا يمكن هزيمة الفساد في الظل .
المطلوب هو تعريته بالأسماء والأرقام :
من هم المسؤولون – المستثمرون؟ ما حجم استثماراتهم؟ وأين تتركّز مصالحهم؟ حين تتحول هذه الملفات إلى قضية رأي عام ضاغط، فإن تجاهلها يصبح مستحيلاً .
2- بناء جبهة إعلامية صلبة
الإعلام هنا ليس فائضا ًعن الحاجة بل أداة حرب .
لا بد من حملة إعلامية ممنهجة، عابرة للولاءات، تفضح هذا التحالف وتعيد تشكيل الوعي الشعبي، بعيداً عن التعمية والتخدير .
الإعلام الحر هو الميدان الأول في معركة استعادة الدولة .
3- تحريك المجتمع المدني
النقابات، الاتحادات، والروابط المهنية ليست كيانات شكلية، بل يمكن أن تكون أدوات ضغط هائلة إذا جرى تفعيلها .
المطلوب حراك منظم، متماسك، يرفع مطالب محددة ويُبقي الضغط مستمراً، لا مجرد احتجاج موسمي ينتهي بانتهاء لحظة الغضب .
4- إصلاح قانوني وهيكلي
لن ينجح أي إصلاح دون فصل صارم بين الوظيفة العامة والمصالح الخاصة .
المطلوب سن تشريعات تحظر تضارب المصالح، وتجريم امتلاك المسؤولين لشركات أو حصص استثمارية خلال توليهم المنصب العام، مع ملاحقة قانونية حقيقية لا استعراض سياسي .
5- الضغط الدولي
بما أن معظم أموال هذه النخب تدور داخل النظام المالي العالمي، فإن المجتمع الدولي يمتلك أدوات مؤثرة :
عقوبات ذكية، تجميد أصول، وقيود مصرفية. حين يدفع المسؤول – المستثمر ثمن فساده في الخارج كما في الداخل، تصبح اللعبة أكثر كلفة وأقل إغراء .
بهذا الشكل، يتحول مشروع المواجهة من مجرد شعار احتجاجي إلى استراتيجية متعددة المستويات :
إعلامية، شعبية، قانونية، ودولية .
إنها ليست معركة سهلة، لكنها المعركة التي بدونها لن يُعاد تعريف الدولة إلا كـ”شركة قابضة” في يد قلة، ولن يُعاد للشعب موقعه الطبيعي كمصدر للشرعية والسلطة .
الخلاصة :
اليمن اليوم يقف أمام أخطر تحالف في تاريخه الحديث : تحالف السلطة والثروة .
تحالف هجيني ابتلع الدولة، وابتكر اقتصاداً قائماً على النهب، وحوّل الشرعية إلى لافتة زائفة ترفعها شركات خاصة على جدار الجمهورية .
إن لم يُكسر هذا التحالف، فلن يكون هناك وطن، بل سوق مغلق تُدار فيه البلاد كما تُدار المزارع الخاصة .
المعركة لم تعد إدارية ولا سياسية فحسب؛ إنها معركة وعي وكرامة وطنية .
اللحظة الراهنة لا تحتمل المساومة ولا التردد :
إمّا أن يستعيد الشعب دولته من بين أنياب النخب المترفة، أو يظل أسيراً لطبقةٍ استباحت كل شيء — الأرض، والموارد، والعدالة، بل وحتى معنى الوطن ذاته .