شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
غزة بين فكي الجريمة :
حربٌ على الذاكرة والإنسان
لم تعد غزة، هذه البقعة الضيّقة المحاصَرة، مسرحًا لصدام عسكري عابر أو جولة من جولات الدم المتكررة؛ بل غدت المرآة الأكثر سطوعًا لكشف عري المشروع الاستعماري الإسرائيلي في أقصى درجات توحشه .
هنا، لا تدور معركة بين جيش وجيش، ولا بين قوتين متكافئتين؛ بل يُرتكب فعل إبادة ممنهج ينهش الجسد الفلسطيني، ويحاول بوقاحة أن يمحو الذاكرة والهوية معًا .
ما يُسوَّق له بصفاقة في البيانات الرسمية الإسرائيلية على أنه “عملية عسكرية” ليس سوى حرب اقتلاع جذري: تدمير البيوت بما فيها من أحلام، سحق الأطفال في أحضان أمهاتهم، وتحويل الأرض إلى مسرحٍ مقفر، خالٍ من بشره الأصليين، يليق فقط بخريطة استعمارية جديدة تُرسم بالدم والنار .
مجازر مكتوبة …
بدم الأطفال
في ليلة الخامس من سبتمبر، تحوّلت سماء غزة إلى جحيم مفتوح، تتساقط منه القنابل كأنها مطر من موتٍ متعمّد .
في غضون ساعات، سُحقت عشرات العائلات تحت الركام، وارتقى واحد وخمسون شهيدًا، بينهم سبعة أطفال لفظوا أنفاسهم الأخيرة بين صرخات الأمهات وصمت الأبراج المنهارة .
ومع ذلك، خرجت أبواق الدعاية الإسرائيلية ببرودة تليق بجلادٍ معتاد، لتصف الأبراج المأهولة باللاجئين والناجين من نزوحٍ سابق بأنها “ أهداف عسكرية ” .
أي انحطاط أخلاقي أعظم من أن يُحوَّل طفلٌ يلهو بين جدران مؤقتة إلى “مقاتل محتمل” في نص بيان عسكري ؟ وأي وقاحة أشدّ من أن يُختصر البرج الذي يأوي أرواحًا وذاكرةً وأحلامًا إلى مجرد “موقع إرهابي” على شاشة رادار ؟
إنها ليست حربًا ضد حماس كما يدّعون، بل حرب معلنة على الطفولة، على الحياة ذاتها، وعلى فكرة أن الفلسطيني يملك الحق في أن يبقى على قيد الوجود .
لقد جرى تحويل الطفل الفلسطيني إلى رهينة جماعية معلنة في معادلة القصف الإسرائيلي؛ لم يعد ضحية عرضية، بل أصبح أداةً للابتزاز السياسي ورسالةً دموية موجهة إلى العالم :
لن ينجو أحد، حتى الأجنّة في بطون أمهاتهم .
إنّها ليست حربًا على مسلحين مختبئين بين الأزقّة، بل سياسة ممنهجة لإبادة البذرة قبل أن تصير شجرة .
هذا هو الإرهاب في أكثر صوره صفاقةً ووقاحة، حين يُمارَس ببرود الدولة وبغطاء بيانات عسكرية متعالية، كأن الدم الفلسطيني تفصيل ثانوي في معادلات القوة .
الإبادة …
بلسان القانون
لم يعد ما يحدث في غزة موضوعًا مطروحًا للنقاش أو سجالًا سياسيًا بين وجهات نظر متعارضة؛ بل صار حقيقة موثقة بدم الشهداء وأختام القانون الدولي .
فـلجان خبراء الإبادة الدولية لم تتردّد في الجزم بأن الجرائم الجارية تستوفي، بلا لبس، أركان جريمة الإبادة الجماعية كما نصّت عليها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 .
لم يعد الأمر توصيفًا بلاغيًا أو اتهامًا شعبويًا، بل توصيفًا قانونيًا صادرًا عن مرجعية دولية متخصصة.
وما زاد الأمر وضوحًا أنّ المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، متهمةً إياهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من بينها استخدام التجويع كسلاح حرب والاستهداف المتعمّد للمدنيين .
هذه ليست تهمًا عابرة، بل اتهامات قضائية تُدرج اسميهما في خانة المطلوبين للعدالة، وتجعل كل عاصمة موقّعة على ميثاق روما شريكًا في الجريمة إن هي استقبلتهما أو تواطأت على حمايتهما .
إنّ لغة القانون هنا لم تعد أقل فتكًا من لغة الصور القادمة من تحت الأنقاض؛ كلاهما يصرخ :
ما يجري في غزة إبادة مكتملة الأركان، لا مجال للمواربة، ولا مفر من لحظة الحساب .
أيُّ شرعية تبقى لما يُسمّى بالقانون الدولي حين يغدو الحبر على الورق أثقل من دماء الأطفال المسفوكة في غزة ؟
كيف يمكن للعالم أن يتحدث عن عدالة كونية بينما المطلوبون للعدالة يتنقّلون بين العواصم بصفاقة، محاطين بالبساط الأحمر وحراسة الدولة، فيما يُساق الفلسطينيون، نساءً وأطفالًا، إلى المقابر الجماعية كما لو كانوا فائضًا بشريًا يجب التخلص منه ؟
إنها ليست محنة فلسطين وحدها، بل فضيحة أخلاقية للنظام الدولي بأسره :
لحظة اختبار تاريخي صارخ، يحدد إن كان العالم سيظل أسير ازدواجيته ونفاقه، أم سيتجرأ على مواجهة جلادي العصر، مهما كانت سطوتهم ونفوذهم .
الخطيئة …
الأخلاقية للعالم
المجزرة في غزة ليست نتاج المدافع الإسرائيلية وحدها، بل ثمرة صمتٍ دولي مُرعب وتواطؤٍ إقليمي فاضح .
فالدول الكبرى، التي ترفع شعارات حقوق الإنسان في المحافل، تكتفي ببيانات باهتة، فيما تُسلِّح القاتل وتمنحه الغطاء السياسي .
أما أنظمة عربية بعينها، فقد آثرت أن تبيع الموقف مقابل صفقات أمنية واقتصادية، تاركة دماء الفلسطينيين تراق كأنها عملة تفاوض رخيصة .
هنا، يتحوّل الصمت إلى مشاركة فعلية، والتقاعس إلى جريمة شريكة .
فالمتواطئ ليس أقل إجرامًا من الفاعل، بل قد يكون أخطر، لأنه يضفي على الجريمة شرعية الصمت ويمنحها فرصة التكرار .
إن ما نشهده ليس فقط انهيارًا للإنسانية في غزة، بل انكشافًا صارخًا لزيف النظام الدولي بأسره .
إن العالم الذي يرفع شعارات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بينما يبرّر سحق غزة يكشف نفاقًا صارخًا لم يعد يحتمل .
كيف يمكن لزمن يتباهى بالحضارة والقانون أن يقف مكتوف اليدين، بينما يموت 21 ألف طفل معاق في غزة نتيجة الحرب، كما وثّقت لجنة الأمم المتحدة؟
هذا ليس فشلًا سياسيًا أو تقصيرًا إداريًا؛ إنه جريمة أخلاقية جماعية، تُسقط أي شرعية للخطاب الدولي حول العدالة والحقوق، وتفضح الوجه القبيح لعالم يتسامح مع القتل المنهجي تحت ستار القانون والدبلوماسية .
ذاكرة … لا تُمحى
قد تهدم الطائرات الإسرائيلية الأبراج، وقد تتحول المدارس والمستشفيات إلى رماد، لكن كل ذلك عاجز عن محو الذاكرة الجمعية لشعبٍ يرفض الاستسلام .
الفلسطيني يقاوم ليس بالسلاح وحده، بل بإصرار لا يلين على البقاء، وبقوة ذاكرته التي تسجل كل جريمة وكل خسارة .
كل قبرٍ جديد في غزة ليس مجرد مأوى للجسد، بل وثيقة إدانة مكتوبة بالدم، وكل طفل يتيم يحمل روايةً ستلاحق الجناة عبر العقود، لتصبح شاهدةً على فشل من حاول محو التاريخ بالقصف والنار .
كلمة …
أخيرة
غزة اليوم ليست مجرد “قضية فلسطينية” أو نزاعاً إقليمياً يمكن تجاهله .
إنها محكّ كوني صارخ يختبر إنسانيتنا الجماعية، ويقيس مقدار ما تبقّى من عدالة في عالم تتآكله الازدواجية والنفاق .
من يرفع شعار “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” بينما يُباد شعب بأكمله، لا يكون مجرد متفرّج؛ بل يصبح شريكًا في الجريمة بالخطاب، ضامنًا لاستمرار المذبحة، ورافعًا لغطاء أخلاقي للقمع والإبادة .
التاريخ لن يغفر، ولن ينسى، ولن يتنازل عن حقوق الضحايا؛ لن يغفر لقادة خطّطوا ونفّذوا الإبادة، ولن يصفح عن العواصم التي أغمضت أعينها عن الدماء، ولن يرحم الأقلام التي حاولت تزوير الحقيقة باسم المهنية والسياسة .
غزة اليوم ليست مجرد بقعة على خارطة العالم؛ إنها المرآة التي تعكس وجه الإنسانية المدمّر، العارية من أي وهم بالعدالة أو الرحمة. كل دمار، كل قصف، كل دم يسيل، يسجّل في ذاكرة الكون شهادةً لا تُمحى :
زمن حضاري ينهار، عالم أخلاقي يسقط، وهاوية لا رجعة منها تتسع تحت أقدام من اعتقدوا أن بإمكانهم طمس الحقيقة بالنار والصمت .
إن كل حجر في غزة، وكل قبر، وكل طفل يتيم، هو صرخة تاريخية :
لن تُمحى غزة، ولن يُمحى دمها، ولن ينجو من ارتكب الجرائم دون مساءلة
أجل التاريخ لن يتسامح مع أحد :
• مع قادة إسرائيل الذين خطّطوا ونفّذوا،
• ولا مع العواصم الصامتة التي أغمضت عينيها عن الدم،
• ولا مع الأقلام المزيفة التي حاولت تبرير القتل تحت ستار الخطاب الإعلامي والسياسي .
غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا محاصَرة أو أرضًا تحت القصف؛ إنها المرآة الفاضحة لعالم ينهار أخلاقيًا، وعنوان سقوط الزمن الذي ظنّ أنه حضاري، لكنه يتهاوى بسرعة نحو هاوية لا رجعة منها .