شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
كشوفات الإعاشة بالدولار ...
أكبر شبكة فساد في تاريخ اليمن الحديث
من جوع الداخل إلى ترف الخارج .. اليمن يواجه معركة الوعي
في وطنٍ أنهكته الحروب وتناوبت عليه خيبات الساسة وعواصف الفساد، لم يعد الصمت ترفاً ولا التغاضي خياراً .
وبينما تتراكم الأزمات على صدور اليمنيين من انقطاع الرواتب إلى انهيار الخدمات وتآكل مؤسسات الدولة، برزت إلى العلن واحدة من أخطر صور العبث المنظم : “كشوفات الإعاشة بالدولار” .
ليست مجرد أرقام متضخمة في جداول إدارية، بل شبكة فساد معقدة استنزفت البلاد لعقدٍ من الزمن، حوّلت المال العام إلى مورد شخصي لشرائح طفيلية تعيش في الخارج، فيما المعلمون والجنود والموظفون يسيرون إلى أعمالهم كل صباح بخطوات مثقلة وبأيدٍ خاوية .
الصحفي المعروف فتحي بن لزرق لم يفتح ملفاً عادياً، بل فجّر معركة وعي حقيقية، كاشفاً عن نزيف مالي يتجاوز ١١ مليون دولار شهرياً يذهب إلى جيوب غير مستحقين، في الوقت الذي يُترك فيه الداخل اليمني فريسة للجوع والعوز .
إنّها ليست معركة أرقام ولا أوراق، بل معركة مشروعية الدولة وكرامة المواطن، معركة فاصلة بين من يريد لليمن أن ينهض، ومن اعتاد أن يعتاش على دمائه وحرمانه .
11 مليون دولار شهرياً ...
نزيفٌ إلى جيوب “الكائنات”
يكشف فتحي بن لزرق عن واحدة من أبشع صور الفساد الممنهج :
ما يقارب أحد عشر مليون دولار شهرياً تُهدر لصالح ما أسماهم “كائنات غير مستحقة”، لا صلة لهم بالوظيفة العامة ولا بالمسؤولية الوطنية .
كائنات لا يتجاوز رصيدها العملي سوى بضع تغريدات أو مشاركات باهتة على منصات التواصل، لكنها تتقاضى مبالغ تفوق ما يتقاضاه مئات الجنود وأضعاف ما يحصل عليه آلاف الموظفين والمعلمين .
في المقابل، يظل جيشٌ بلا رواتب منذ أشهر، وأجهزة أمنية تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات العيش، وقطاعات مدنية تُساق إلى أعمالها في صمتٍ مذل، بلا مقابل ولا ضمان .
المفارقة هنا ليست في حجم المبلغ فحسب، بل في الفجوة الأخلاقية والإنسانية التي تجعل حفنة من المتنعمين في الخارج تتقاضى ما يكفي لإطعام آلاف الأسر في الداخل، بينما يدفع الشعب ثمن حرمانه كل يوم .
معركة استعادة …
المال العام
لا يختزل فتحي بن لزرق هذه الفضيحة في بعدها المالي المحض، بل يرفعها إلى مستوى معركة وطنية كبرى تتقاطع فيها قيم العدالة والمشروعية وكرامة الدولة .
فالقضية ليست مجرد ملايين مهدورة، بل هي امتحان أخلاقي وسياسي يحدد ما إذا كانت السلطة في اليمن قادرة على تمثيل شعبها، أم أنها مجرد واجهة تُدار لخدمة طبقة مترفة في الخارج .
إن استمرار “أغنياء المنفى” في التهام أموال “فقراء الداخل” لا يعكس فقط اختلالاً اقتصادياً، بل يجسد انهياراً في العقد الاجتماعي ذاته :
كيف يمكن لدولة أن تطلب من مواطنيها التضحية والصمود، بينما تتركهم بلا رواتب ولا خدمات، وتسمح في الوقت ذاته بتحويل المال العام إلى أرصدة خاصة ؟
إنها معركة لا تنفصل عن هوية الدولة وحق المواطن، معركة فاصلة بين وطن يريد أن ينهض، وذوات امتهنت التغذي على دماء المحرومين .
إنها ليست ملفاً بيروقراطياً يُطوى بقرار إداري أو يُوارى خلف لجان شكلية وبيانات إنشائية باردة؛ بل هي معركة وعي وكرامة وطنية .
معركة لا يمكن كسبها إلا بتكاتف كل القوى المدنية الحية :
الإعلامي الحر الذي يفضح، والسياسي النزيه الذي يواجه، والناشط الحقوقي الذي يصرخ، والمواطن الغيور الذي يرفض أن يُنهب مستقبله .
إنها لحظة فاصلة تتجاوز الحسابات الفردية، لتتحول إلى حراك شعبي ضاغط يفرض على السلطة الاعتراف بحق الناس في العيش بكرامة، ويفرض على الفاسدين الانكشاف أمام التاريخ .
الفجوة الأخلاقية ...
فلل في الخارج وجوع في الداخل
من بين أكثر الزوايا قسوةً وإيلاماً في هذه الفضيحة، تلك المفارقة الأخلاقية الصارخة التي أضاء عليها فتحي بن لزرق. مشهدان متناقضان لا يلتقيان :
• من جهة، نخب سياسية وإعلامية مستقرة في الخارج، تحيط نفسها بفلل فاخرة وشقق فارهة، ترسل أبناءها إلى أرقى الجامعات، وتتنقل بين العواصم كأنها جزء من طبقة أرستقراطية معولمة .
• ومن جهة أخرى، جنود ومعلمون وموظفون في الداخل، يواجهون الجوع بصمت، يتنقلون إلى أعمالهم مثقلين بالحرمان، عاجزين حتى عن دفع أجرة المواصلات، يعيشون في ظل انقطاع الرواتب وانهيار الخدمات .
إنها ليست مجرد هوة اقتصادية بين طبقات، بل انفصام أخلاقي خطير بين من يُفترض أنهم قادة الرأي والسياسة وبين الشعب الذي يزعمون تمثيله .
هوة تهدد معنى الدولة ذاته، إذ كيف يمكن لسلطة أن تستمد مشروعيتها ممن يعيشون على فتات المعاناة، بينما يبدد القلّة امتيازاتها في الخارج ؟
أي مشروعية سياسية أو أخلاقية يمكن أن تنهض على هذا الأساس المختل، حيث تتغذى قلة مترفة على عرق الأكثرية المقهورة ؟
وكيف يمكن لخطابٍ رسمي أن يطلب من الشعب التضحية والصبر، فيما تُنهب موارده جهاراً نهاراً وتتحول إلى امتيازات شخصية لفئة لا تقدم للوطن سوى المزيد من العبء ؟
إنّ الشرعية لا تُبنى على بيانات ولا على شعارات، بل على عدالة التوزيع وإنصاف المواطن، وكل ما عدا ذلك ليس سوى قشرة واهية تتآكل أمام أول سؤال جاد من الداخل .
إسقاط الكشوفات ...
مطلب وطني لا تراجع عنه
ما يطرحه فتحي بن لزرق لا يندرج في إطار الخطاب العابر أو الشعارات الطارئة، بل يمثل مطلباً استراتيجياً يرتبط بجوهر مشروع الإصلاح المالي والإداري في اليمن .
فإسقاط “كشوفات الإعاشة بالدولار” ليس مجرد إلغاء امتيازات مشبوهة، بل هو وقف لنزيف مستمر منذ عقد كامل، وإعادة توجيه الموارد إلى مستحقيها الطبيعيين : الجنود المرابطون بلا رواتب، المعلمون الذين يصنعون الوعي، الأطباء الذين يواجهون المرض والموت بأدوات بائسة، والموظفون الذين يشكّلون العمود الفقري لبقاء الدولة .
إنها معركة شاقة بلا شك، لكنها في الوقت ذاته اختبار حاسم لإرادة التغيير .
فإذا نجح اليمنيون في إسقاط هذه الكشوفات، فإنهم يثبتون قدرتهم على كسر حلقة الفساد المزمن، ويوحدون صفوفهم حول قضية ملموسة تتصل مباشرة بلقمة العيش وكرامة الإنسان .
أما الفشل، فسيعني تكريس معادلة الظلم وتوريث الهزيمة للأجيال القادمة .
نحو استراتيجية وطنية …
لمكافحة الفساد
لكي لا تظل هذه المعركة مجرّد صرخة في الفضاء أو موجة غضب عابرة، لا بد أن تتحول إلى استراتيجية وطنية متكاملة تستند إلى أدوات عملية ومسارات واضحة، قادرة على مواجهة الفساد وتجفيف منابعه . جوهر هذه الاستراتيجية يقوم على خمسة مرتكزات أساسية:
1- التوثيق والشفافية :
كشف الأسماء والجهات المستفيدة من كشوفات الإعاشة للرأي العام، وتحويل الملفات من دائرة الهمس إلى فضاء الحقائق المعلنة .
2- المساءلة القانونية :
محاكمة كل من صادق أو صرف أو شرعن هذه المبالغ دون وجه حق، بما يعيد الثقة في أن القانون ليس مجرد نص جامد بل أداة للعدالة .
3- إعادة التوجيه :
تحويل الأموال المهدورة إلى مسارها الصحيح، لصالح الجنود والمعلمين والأطباء والموظفين، باعتبارهم الركيزة الحقيقية لاستمرار الدولة والمجتمع .
4- حملة إعلامية منظمة :
إدارة خطاب وطني متماسك يفضح الفساد ويعبئ الرأي العام خلف مطلب الإصلاح، حتى يصبح إنهاء هذه الكشوفات مطلباً شعبياً لا يمكن تجاوزه .
5- ضغط مدني وحقوقي :
تفعيل دور النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني، لتأطير الاحتجاجات والمطالب، وضمان أن تتحول إلى قوة ضغط مؤسسية مستمرة وليست انفعالية مؤقتة .
بهذا، لا تكون المعركة ضد الفساد و “كشوفات الإعاشة” معركة أفراد أو شعارات، بل مشروعاً وطنياً لإعادة تعريف الدولة على أسس الشفافية والعدالة والمشروعية .
الخلاصة :
اليمن اليوم أمام مفترق مصيري :
فإما أن يستمر نزيف المال العام رهينةً لأقلية مترفة اعتادت أن تعيش في الخارج على حساب الداخل، وإما أن ينهض الشعب ومعه قواه الحية، ليُسقط هذه “الكشوفات السوداء” ويضع حداً لعقدٍ من العبث المنظم .
إنّها ليست معركة أرقام في دفاتر مالية، بل معركة كرامة وطنية تُعيد الاعتبار لفكرة الدولة ولحق المواطن في حياة كريمة .
اللحظة الراهنة لا تحتمل المساومة؛ فإما أن تُستعاد الأموال لتُصرف على الجنود والمعلمين والموظفين الذين يصنعون بقاء الدولة، أو أن يظل الوطن أسيراً لمنظومة فساد تتغذى على دماء أبنائه .
والخيار هنا ليس ترفاً سياسياً، بل قدرٌ وطني لا يقبل التراجع ولا يحتمل التأجيل .
وكما اختزل الصحفي فتحي بن لزرق جوهر المعركة بعبارة فاصلة :
“إسقاط كشوفات الإعاشة بالدولار مطلب شعبي لا تراجع عنه أبداً، ودونه خرط القتاد .”
إنها ليست جملة عابرة في سياق صراع يومي، بل وثيقة كرامة وطنية تختصر صرخة الناس، وتخط على جدار الزمن خطاً فاصلاً بين وطنٍ يريد أن ينهض ليستعيد ماله وكرامته، وبين طغمة مترفة جعلت من حرمانه جسراً لترفها .