شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
أحمد فتحي .. العود الذي غنّى اليمن للعالم وخلّد الوطن في الذاكرة
فنان أم وطن ؟
في زمنٍ تتسارع فيه موجات الابتذال وتذوب فيه الخصوصيات الفنية في سوق الاستهلاك العابر، يطلّ اسم أحمد فتحي كأيقونة عصيّة على التكرار، وكمقامٍ موسيقي يختزن في نبراته ذاكرة اليمن وروح العرب معاً .
إن الحديث عن فتحي لا يقتصر على كونه عازف عود بارعاً أو مطرباً متمرساً أو حتى موسيقاراً مبدعاً؛ بل يتجاوز ذلك إلى كونه مشروعاً وطنياً – ثقافياً – حضارياً متكامل الأركان .
فهو الفنان الذي لم يأتِ ليملأ فراغاً في المشهد الغنائي، بل ليعيد الاعتبار إلى الصوت اليمني كهويةٍ وكرامةٍ ورسالة .
حمل على كتفيه إرثاً ثقيلاً من الغناء الصنعاني والحضرمي واللحجي والتهامي، وأعاده إلى المنصات العربية والعالمية بجرأة المجدد ووفاء الحارس .
لم تكن رحلة أحمد فتحي مجرد خطوٍ فردي على أوتار العود، بل سيرة وطن تُعزَف؛ ملحمةٌ جمالية ووطنية متفردة، رسخت مكانة اليمن في الوجدان العربي، وأهدته مقاماً يليق بذاكرة حضارته وعراقة جذوره .
هكذا يتحول السؤال عن أحمد فتحي إلى سؤالٍ عن ماهية الفن ذاته :
هل هو صوت فردٍ يبدع، أم صوت وطنٍ ينهض من خلال فنان ؟
والجواب الذي يقدمه فتحي، عبر نصف قرن من العطاء، أن الفن الحقيقي لا ينفصل عن جذره؛ إنه وطنٌ متجسّد في وترٍ وصوتٍ ورسالة .
طفولة …
تُشبه المقاومة
من تخوم مدينة الضحي بمحافظة الحديدة، وفي العام 1957، خرج طفل لم يكن يعرف أن أصابعه الصغيرة ستتحول يوماً إلى أوتارٍ تهزّ وجدان أوطان بأسرها .
لم تكن طفولته ناعمة أو مفروشة بالترف، بل محمّلة بأثقال الحرمان، حيث صاغته البيئة الصعبة بصلابة الإرادة لا برخاوة الدعة .
حين حاول والده كبح اندفاعه نحو الموسيقى بكسر آلته، لم ينكسر الطفل؛ بل صنع عوداً بدائياً بيديه، كأنه يعلن أن الحرمان قد يسلب الجسد أدواته لكنه لا يستطيع أن يقيد الروح .
هناك، في لحظة مواجهة مبكرة بين الموهبة والقيد، بين الرغبة والمنع، تشكلت البذرة الأولى لمشروع أحمد فتحي :
أن الفن ليس زائداً عن الحاجة، بل قدرٌ يوازي الحياة نفسها .
لقد كانت طفولته أشبه بتمرينٍ على المقاومة، لا مقاومة الواقع الاجتماعي فحسب، بل مقاومة النسيان والموت الرمزي .
وكأن العود الذي نحته بيديه لم يكن مجرد آلة موسيقية، بل إعلاناً مبكراً عن فلسفة حياته :
أن الموسيقى ليست لهواً عابراً، بل رسالة وجودية، سلاحها الإصرار، وميادينها قلوب البشر .
القاهرة ...
بوابة التتويج العلمي والفني
حين شدّ أحمد فتحي رحاله إلى القاهرة، لم يكن يخطو نحو مدينة كبرى فحسب، بل نحو تاريخ موسيقي عريق طالما شكّل الوجدان العربي .
هناك، في عاصمة الفنون ومختبر الطرب، وجد الحلم اليمني فضاءه الطبيعي لينمو ويتبلور .
التحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية، المؤسسة الأكاديمية التي تخرّج منها أعلام الطرب العربي الحديث .
لم يكن حضوره الأكاديمي سعياً وراء شهادة، بل موقفاً معرفياً ضد التبديد؛ إذ انشغل بتثبيت هوية موسيقية مهددة بالسرقة والاقتباس والتجيير، وكأنه يعلن أن الفن اليمني ليس ميراثاً مباحاً، بل ملكية حضارية خالدة .
وقد أثمرت جهوده عن رسالة ماجستير رفيعة المستوى (1998) بعنوان: “دور آلة العود في مصاحبة الغناء اليمني”، نال عنها تقدير الامتياز .
لم يكن هذا البحث مجرد دراسة أكاديمية، بل بمثابة إعلان علمي بأن الغناء اليمني ليس هامشاً في المشهد العربي، بل أصلاً متيناً من أصوله .
لم يكتفِ فتحي بالبحث والدرس، بل أثبت نفسه ميدانياً، فحصد ثلاث جوائز كأفضل عازف عود خلال سنواته الدراسية، ليؤكد أن التنظير والموهبة يمكن أن يتعانقا في شخص واحد .
وكأنما أراد أن يقول :
“ أنا العازف والباحث معاً، الفنان والمفكر في آنٍ واحد ” .
وجاءت اللحظة الفارقة حين منحته جامعة الحديدة عام 2006 الدكتوراه الفخرية، ليس تكريماً لموهبته فحسب، بل اعترافاً بدوره كمثقف ملتزم، يزاوج بين العلم والفن، وبين المحلية والعالمية .
فالقاهرة لم تكن محطة عبور في مسيرته، بل بوابة تتويج صاغت من أحمد فتحي فناناً بعين الباحث، وباحثاً بروح الفنان، ومشروعاً ثقافياً يتجاوز الفرد إلى الأمة .
ملك العود
… مدرسة قائمة بذاتها
لم يكن لقب “ملك العود” الذي اقترن باسم أحمد فتحي مجرّد مجاملة إعلامية أو وصفاً عابراً لتميّز تقني؛ بل هو تعبير عن جوهر تجربة كاملة جعلت من العود مدرسة بحد ذاته .
فالعود بين يديه لم يعد خشباً وأوتاراً، بل كياناً حيّاً يتنفس ذاكرة اليمن ويترجم وجدان أمة .
إن فتحي لا يعزف على آلة جامدة، بل على أوتار الروح؛ نغماته ليست مجرد أصوات، بل لوحات تتجاوز حدود السمع لتتحول إلى صورٍ وفضاءات ومعانٍ .
كل لحنٍ يقدمه يُحسّ وكأنه سيرة وطن، وكل مقامٍ يعزفه يبدو كأنه نصّ شعري محمّل بتاريخ طويل من البكاء والفرح والصمود .
بهذه القدرة الاستثنائية، جاب أحمد فتحي مسارح العالم، حاملاً وجه اليمن الثقافي إلى باريس وموسكو، وإلى طوكيو وكندا، حيث كان عزفه يختصر المسافة بين الشرق والغرب، بين الماضي والحاضر .
وفي كل محطة، لم يكن يقدّم نفسه كفنان فرد، بل كصوت جماعي لشعب بأكمله .
ولعل ذروة هذه الرحلة تجسّدت في عام 2009 حين عزف معزوفة خاصة في مركز كينيدي بواشنطن أهداها للرئيس الأمريكي باراك أوباما، في لحظة رمزية جمعت بين الدبلوماسية والفن .
ثم شارك في حفل تسليم جائزة نوبل للسلام، ليؤكد أن الموسيقى، حين تخرج من وترٍ صادق، تستطيع أن تجلس إلى جوار السياسة كندٍّ لا تابع .
إن أحمد فتحي في هذا المقام لم يعد “عازفاً” فحسب، بل مدرسة قائمة بذاتها؛ مدرسة تُعلّم كيف يمكن للفن أن يكون لغة هوية، وجواز سفر حضارة، ورسالة إنسانية عابرة للقارات .
صوت اليمن ..
بين التراث والحداثة
لم يتعامل أحمد فتحي مع الأغنية باعتبارها شكلاً من أشكال الطرب الخفيف، بل بوصفها وثيقة هوية وذاكرة جمعية .
ففي عالمٍ تتآكل فيه الخصوصيات الثقافية، حمل فتحي على عاتقه مهمة استثنائية :
أن يصون كنوز الغناء اليمني، من الصنعاني العابق بأصالة صنعاء، إلى اللحجي الرقيق، والحضرمي الشجي، وصولاً إلى التهامي المفعم بالبساطة والعمق .
هذه الألوان التي كادت أن تبقى أسيرة الجغرافيا والتجيير والاقتباس، نقلها إلى المنصات العربية والعالمية، لتصبح صوتاً مشتركاً بين اليمن والإنسانية .
غير أن فتحي لم يكن حارساً جامداً للتراث، بل كان مجدداً واعياً .
أعاد صياغة هذه الألوان بروح حداثية، تنفتح على العصر دون أن تفرّط بجوهرها .
لقد قدّم للأذن الحديثة لغة مألوفة، وفي الوقت ذاته أبقى على النَفَس الأصيل، وكأنما أراد أن يبرهن أن التراث لا يعيش في المتاحف، بل في الأوتار التي تتنفس في حاضرنا .
في أعماله الوطنية الكبرى مثل: «أيلول شمس الحرية»، «عودة بلقيس»، و*«نحن جنودك يا بلقيس»*، يتجلى أحمد فتحي بوصفه أكثر من فنان؛ إنه مثقف ملتزم يرى في الموسيقى سلاحاً لمقاومة النسيان وتفكيك الاغتراب، ووسيلة لحماية الذاكرة من التشظي .
كل أغنية عنده ليست مجرد مقطع لحني، بل نص مقاوم يعيد لليمنيين شعورهم بالانتماء، ويمنحهم جسراً بين الماضي والحاضر .
لقد جعل أحمد فتحي من صوته ومن عوده سفارة ثقافية متجولة، تثبت الاعتبار لليمن ككيان حضاري عبر الفن، وتؤكد أن الهوية، مهما تهشمت تحت وطأة الصراعات، يمكن أن تُرمم عبر أغنية تحفظ الذاكرة وتُنعش الوجدان .
التكريمات …
حين يصبح الفنان سفيراً
لم يكن عام 2016 مجرّد تاريخٍ في السيرة الفنية لأحمد فتحي، بل محطة اعتراف دولي حين اختير سفيراً للنوايا الحسنة من قِبل المركز الدولي للسلام لحقوق الإنسان بالقاهرة، ليغدو أول فنان يمني يحوز هذا اللقب. غير أن الحقيقة الأعمق هي أن أحمد فتحي لم يكن بحاجة إلى صفةٍ أممية لتُثبت مكانته؛ فقد كانت أوتاره أسبق من الألقاب، تحمل اليمن إلى العالم، وتعيد العالم إلى اليمن .
إن التكريم في حياة فتحي لم يكن مجرّد شهادات أو دروع، بل كان بمثابة ترجمة رسمية لرسالةٍ مارسها عملياً منذ بداياته :
أن الفن يمكن أن يكون دبلوماسية شعبية، وجسراً بين الثقافات، وصوتاً للحضارة حين يعلو ضجيج السياسة . ففي كل مرة وقف على مسرح عالمي، كان يمثل أكثر من شخصه؛ كان سفيراً لوطنٍ جريح يبحث عن صورته الأجمل .
ولعل ما يمنح تكريماته خصوصية أنها لم تأتِ من فراغ، بل من مسيرة نسجت بعرق الموهبة وإصرار المثقف العضوي، الذي آمن بأن الموسيقى ليست زخرفاً للآذان، بل لغة للسلام .
هكذا تحوّل أحمد فتحي إلى حالة استثنائية :
فنان يقدّم نفسه كسفير، وسفير يُجيد لغة الفن أكثر من لغة الخطابة السياسية .
خاتمة :
مقام الخلود
إن الحديث عن أحمد فتحي ليس استعادةً لسيرة فنان فحسب، بل قراءة في مشروع وطني وثقافي وجمالي متكامل، استطاع أن يحوّل آلة العود من مجرد أداة موسيقية إلى راية يمنية ترفرف في سماء العالم .
لقد جسّد في مسيرته معادلة نادرة :
أن يكون الفرد مؤسسة، وأن يتحوّل الفنان إلى وطنٍ يمشي على وتر .
ففتحي، في جوهره، ليس اسماً فنياً وحسب، بل رمزاً للهوية اليمنية وهي تصارع النسيان، وصورةً للصمود وهي تواجه التبعثر .
من طفولة مقاومة إلى منصات العالم، ومن بحث أكاديمي عميق إلى تكريمات أممية، نسج ملامح تجربة فريدة تُثبت أن الموسيقى قادرة أن تكون علماً من أعلام الأمة، وسفارة من سفاراتها الكبرى .
وفي زمنٍ تتناثر فيه القيم، وتذوب فيه الهويات تحت ضغط العولمة وصخب السوق، يظل أحمد فتحي شاهداً على أن الفن الحقّ ليس زينة للذاكرة بل حارسها الأمين، وأن الفنان الأصيل قادر أن يمنح وطنه خلوداً يتجاوز الخراب والحروب .
وهكذا، يبقى أحمد فتحي في وجدان اليمن والعرب مقاماً من مقامات الخلود؛ مقاماً يتجاوز الزمن، لأن ما يُعزف على أوتار الروح لا ينطفئ، وما يُغنّى باسم الوطن لا يموت .