بحث

أحمد علي صالح … من الإبعاد إلى الحضور المضاعف : قراءة في استراتيجية صنعاء لصناعة الخصوم

مصطفى بن خالد

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

أحمد علي صالح … 
من الإبعاد إلى الحضور المضاعف : 
قراءة في استراتيجية صنعاء لصناعة الخصوم

في خطوةٍ مثقلة بالرمزية السياسية وتداعياتها البعيدة، أقدمت اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام في صنعاء على قرارٍ لافت يقضي بفصل العميد أحمد علي عبد الله صالح من عضوية الحزب . 

لم يكن القرار مجرّد إجراء تنظيمي داخلي أو نزاع حزبي تقليدي، بل جاء كمرآة مكثّفة لأزمة الحكم في صنعاء، ولطبيعة رؤيته الضيقة إزاء التنوع والاختلاف. فالسلطة هنا لا تتعامل مع التعدد السياسي كرافعة حيوية للمشهد الوطني، بل كخطر ينبغي تحييده بالإقصاء . 

ومن ثمّ، فإن القرار لا يمكن قراءته إلا في سياق أوسع : سياق سلطة مأزومة تسعى لفرض أحاديتها، لكنها في الوقت ذاته تعيد إنتاج خصومها وتصنع حضورهم بطرق لم تكن في الحسبان .

في السياق اليمني الراهن، يبرز هذا القرار كدليل صارخ على طبيعة النهج الذي تتبعه سلطة صنعاء في إدارة خلافاتها مع الآخر . 

فالمسألة لا تتعلق بمجرد اختلافٍ في الرؤى أو تباينٍ في الاجتهادات السياسية، بل بتوجّه ممنهج يقوم على نفي التعدد ورفض الاعتراف بالاختلاف بوصفه عنصراً مشروعاً من عناصر الحياة الوطنية . 

فالتنوع السياسي، الذي كان يمكن أن يُعد مصدر غنى وحيوية للمشهد اليمني، يُختزل هنا في ثنائية الولاء المطلق أو الإقصاء الحاد .

 ووفق هذه الرؤية، فإن أي شخصية بارزة تخرج عن دائرة الطاعة الكاملة تتحول في نظر المؤسسة الحاكمة إلى “ظلٍّ مزعج” ينبغي محوه، بدلاً من التعامل معه كقيمة مضافة أو شريك محتمل في إعادة بناء التوازن السياسي .

غير أن ما يضاعف دلالات القرار هو ما يحمله من آثار غير متوقعة قد ترتد على صانعيه أكثر مما تصيب المستهدف به . 

فبدلاً من تضييق دائرة النفوذ، قد يفتح الفصل الباب واسعاً أمام اتساع دائرة الخصوم وتعاظم حضورهم . 

فالعميد أحمد علي عبد الله صالح، بما يملكه من رصيد رمزي وتاريخ سياسي متجذر، يتجاوز بكثير حدود كونه مجرد عضو في المؤتمر الشعبي العام؛ إنه شخصية قادرة على إعادة التموضع في أي محور سياسي بديل، ومن موقع أكثر تأثيراً ومرونة .

 وهنا تكمن المفارقة العميقة : 
قرار الإقصاء الذي أُريد له أن يطفئ جذوة حضوره قد يتحول إلى قوة دفع جديدة، تنقل الرجل من خانة العضوية الحزبية الضيقة إلى موقع تفاوضي أوسع، ربما أشد خطورة على خصومه وأكثر وزناً مما كان عليه وهو داخل المؤتمر نفسه .

من زاوية استراتيجية أدق، تبدو سلطة صنعاء وكأنها تعيد إنتاج المعضلة التي لطالما أتقنتها : 
صناعة خصوم أقوياء . 

فالمفارقة أن القرار الذي كان مرسوماً لإضعاف العميد أحمد علي عبد الله صالح، قد يفرض على السلطة نفسها معادلة عكسية، تُلزمها بالتعاطي معه كشريك تفاوضي لا مفر منه . 

وبذلك يتحول الإقصاء إلى اعتراف غير معلن بقوة الخصم، وإلى تمهيد لحضوره في طاولة المفاوضات، سواء على مستوى الحوار الوطني بين القوى المتصارعة في اليمن، أو في سياق التفاهمات الأكثر حساسية بين سلطات صنعاء وعدن .

 إن ما أرادته السلطة تقليصاً لنفوذ خصمها قد ينتهي إلى تكريسه لاعباً محورياً لا يمكن تجاوزه في معادلة التسويات المقبلة .

بعبارة أوضح، يكشف القرار عن تناقض بنيوي في مقاربة السلطة بصنعاء : 
فهي من جهة تسعى إلى إحكام القبضة وفرض سيطرة مطلقة على المشهد السياسي، لكنها في المقابل تُقر – ولو ضمناً – بواقع لا يمكن إنكاره، وهو استحالة تجاوز القوى المستبعدة أو إلغائها من المعادلة الوطنية .

 ومن هنا يصبح فصل العميد أحمد علي عبد الله صالح أكثر من مجرد خطوة حزبية؛ إنه مفتاح لفهم ديناميات الصراع اليمني المركّب، حيث تتقاطع رغبة الهيمنة مع الحاجة الواقعية للتفاوض، وحيث تتحول أدوات الإقصاء إلى آليات لتوسيع دوائر الخصومة بدلاً من تضييقها .

 إنه قرار يجسد بامتياز أسلوب إدارة السلطة للحضور السياسي لمعارضيها : 
صناعة خصوم جدد بدلاً من احتوائهم، وإنتاج أقطاب بديلة بدل إطفاء تأثيرهم .

الخلاصة :
يتضح أن قرار فصل العميد أحمد علي عبد الله صالح ليس نهاية لمسيرته السياسية، بل هو بداية مرحلة جديدة تتجاوز حدود المؤتمر الشعبي العام إلى فضاء أوسع من التأثير . 

فالإقصاء هنا لا يلغي الحضور، بل يعيد تشكيله على نحو أكثر قوة ومرونة، ويضع السلطة في مواجهة خصم صُنع بقرارها، لا بفعله .

 وهكذا، يغدو القرار مرآة كاشفة لجوهر الأزمة في صنعاء : 
سلطة بارعة في إنتاج الخصوم، عاجزة عن استيعاب التنوع، لكنها – على الرغم من ذلك – مضطرة دوماً للعودة إلى طاولة التفاوض مع من حاولت إقصاءهم . 

إنها المفارقة التي تختصر معادلة الحكم في اليمن : إقصاء يولّد نفوذاً، وهيمنة تصنع حواراً، وسياسة تحاول الاحتكار لكنها تنتهي بصياغة توازنات جديدة .

آخر الأخبار