بحث

كشوفات إعاشة بالدولار ... جريمة مُعلنة بحق اليمنيين

مصطفى بن خالد

شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم 
مـــصـــطــفـــى بن خالد

كشوفات إعاشة بالدولار ... 
جريمة مُعلنة بحق اليمنيين

لم يعد الصمت ممكناً ولا الاحتمال وارداً .
 فبينما يتهاوى اليمنيون في الداخل تحت سطوة الفقر المدقع، ويتخبطون بين انقطاع الرواتب وانهيار الخدمات واندثار أبسط مقومات البقاء، يتواصل في الخارج مشهد موازٍ يبعث على الغثيان :
 آلاف من المسؤولين والنافذين يتقاضون بانتظام ما يُسمّى “ كشوفات الإعاشة الشهرية بالدولار ”، في ممارسة لا يمكن توصيفها إلا باعتبارها فضيحة مالية وأخلاقية مكتملة الأركان، كما وصفها الصحفي فتحي بن لزرق، ووصمة عار على جبين سلطة تنهب قوت الشعب لتغذي بها رفاهية المنفى .

إنها جريمة مضاعفة، تُرتكب ببرود في زمن المجاعة : جريمة بحق الخزينة المنهكة التي تُستنزف لصالح الامتيازات، وجريمة بحق الملايين الذين يفتقدون كسرة الخبز وجرعة الدواء . 
إن استمرار هذا النزيف ليس مجرد فساد مالي، بل سقوط أخلاقي يعكس حجم الفجوة بين نخبة مترفة في الخارج ووطن منكوب في الداخل، وطن يتهاوى جوعاً فيما يُسقى أبناؤه الوهم، ويُغذّى مسؤولوه بالدولار .

كيف يمكن لعقل أن يتقبّل هذا العبث ؟ ملايين الدولارات تُهدر شهرياً على أكثر من خمسة آلاف شخص، لا يجمعهم سوى أنهم استوطنوا عواصم الترف والرفاه، من الرياض إلى أبوظبي فالقاهرة، ومن إسطنبول إلى الدوحة فعمان، بالاضافة إلى عواصم عالميةأخرى، بينما الداخل اليمني يختنق بالجوع، ويتساقط على أرصفة المرض . 

أي منطق سقيم يجيز أن تتحول أموال شعبٍ منكوب إلى فواتير مطاعم فاخرة ومقاهٍ راقية، فيما بطون الأطفال في اليمن تضج بالفراغ، وأجساد المرضى تنهار عند أبواب المستشفيات العاجزة حتى عن توفير شريط دواء أو جرعة محلول ؟ إننا أمام مفارقة لا يبتلعها عقل، ولا يبررها دين، ولا يقبلها ضمير ولا تقرها الأسلاف والأعراف والشيم اليمانية الأصيلة .

إعاشة أم فضيحة ؟

ليست هذه الكشوفات سوى رشوة سياسية فاضحة، مغلفة بعنوان خادع اسمه “ الإعاشة ” . 

في حقيقتها هي آلية ارتزاق مقنّنة، تُبقي طبقة من المنتفعين رهينة ولاءٍ مشوّه، تتغذى من دم الوطن وتعيش على حساب جوعه . 
إنها ليست مجرد مبالغ تُصرف، بل سلسلة من القيود الثقيلة تُطوّق أعناق اليمنيين، تُنهب من خلالها مواردهم في وضح النهار بلا رقيب ولا حساب .

لقد تحوّلت هذه الممارسة إلى نظام فساد ممنهج، يشرعن النهب، ويُعمّق شروخ الانقسام، ويصادر المعنى الحقيقي للوطن .
 والأسوأ أنها أفرغت التضحيات الشعبية من مضمونها، إذ تحولت الثورة إلى مجرد حساب مصرفي مفتوح لرفاهية طبقة مترفة، تعيش خارج حدود الوطن لكنها تمتص دماءه بلا خجل ولا حد .

شعب ينهار …
ومسؤولون يتنعمون

لا يحتاج المرء إلى كثير جهد كي يلمس حجم الفاجعة الأخلاقية قبل أن تكون مالية .
 فبينما يُحرم الموظف اليمني في الداخل من مرتبه الزهيد بالريال اليمني لأشهر متتالية، يهنأ “ المسؤول ” المهاجر بمرتبه السخي بالدولار في الخارج، كأن الوطن قد تحول إلى ماكينة صرّاف آلي مخصّصة لتغذية رفاهه .

 أي سقوط أفظع من أن يغدو الشعب وقوداً للجوع والإذلال، فيما يتحول عرقه المنهوب إلى حسابات مصرفية تموّل حياة مترفة في المنافي ؟

إنها ليست مجرد جريمة مالية عابرة، بل إهانة عارية لكرامة اليمني، وفضيحة أخلاقية مدوّنة في جبين كل من يقف خلفها أو يتواطأ بالصمت معها . 
إنها شهادة دامغة على انفصال النخبة عن واقع وطنها، وتحويلها من شريك في المسؤولية إلى شريك في النهب والإذلال .

المطلوب الآن ... 
موقف وطني جامع

لقد لامس فتحي بن لزرق جوهر الحقيقة حين صدح بالقول: “ من يريد راتباً فليعد إلى اليمن ويتسلمه بالريال ووفق سلم الأجور، أما من لم يعد يعنيه الأمر فالباب يفوّت جمل .” ليست هذه مجرد عبارة عابرة، بل صيحة ضمير تختصر المطلب الوطني بأكمله : 
أوقفوا فوراً مهزلة كشوفات الإعاشة بالدولار .

إن من يصرّ على استمرار هذه الجريمة لا يمكن وصفه إلا بأنه شريك مباشر في إفقار الشعب وتجويعه، وخصم معلن لكرامة اليمني وحقه في البقاء .
 لقد آن الأوان لاصطفاف وطني عابر للانقسامات، يضع حداً لهذا النزيف الفاضح، ويعيد الاعتبار لوطن تحوّل إلى غنيمة تتقاسمها الأيادي العابثة.
إنها لحظة اختبار :
 إما أن يكون الصوت الجمعي للشعب أقوى من امتيازات المنتفعين، أو يظل الوطن أسيراً لطبقة لا ترى فيه سوى بنك مفتوح، وشعب لا ترى فيه سوى وقوداً لبقائها .

الخلاصة :

لا يمكن لبلد أن يُبنى فيما نخبه السياسية تُقيم خارج أرضه وتعيش على حسابه . 
إن استنزاف ملايين الدولارات كل شهر لصالح جيوش من “المسؤولين الغائبين” جريمة لا تقل فداحة عن الحرب نفسها .
 إن الصمت على هذه الممارسات خيانة، والتواطؤ معها طعنة في خاصرة وطن يبحث عن مخرج من الكارثة .
لقد آن الأوان لليمنيين جميعاً أن يرفعوا الصوت عالياً : 

لا إعاشة بالدولار بعد اليوم .. كفى نهباً، كفى استهتاراً، كفى جريمة .
كفى عبثاً، وكفى استهتاراً . 

إن استمرار صرف هذه الكشوفات بالدولار ليس مجرد خلل إداري يمكن إصلاحه، بل هو نهب علني منظم، وفضيحة أخلاقية كبرى، وجريمة مكتملة الأركان بحق وطن يتهاوى جوعاً وقهراً . 
من يقبل باستمرارها شريك في الفساد، ومن يصمت عنها شريك في الخيانة .

لقد حان الوقت لاقتلاع هذه الممارسة من جذورها، ووضع حد لطبقة من المسؤولين الذين تحوّلوا إلى طفيليات عابثة، تتغذى على دماء اليمنيين وهي تختبئ خلف جدران الفنادق والقصور الفاخرة في الخارج .

 لن يُبنى وطن على حساب جوع أطفاله، ولن يُكتب لتاريخ اليمن إلا أن يُسجَّل فيه من وقف ضد هذا العار، ومن تواطأ معه .

أوقفوا هذه الجريمة الآن .. 
قبل أن يسجل التاريخ أنكم كنتم شركاء في إعدام وطن .

آخر الأخبار