"قراءة تحليلية في خطاب الدكتور محمود المشهداني: ارتباك وتسييس للملفات الحساسة"
ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي
تصريحات رئيس البرلمان الدكتور محمود المشهداني في حواره الأخير مع قناة دجلة لا تُعبر عن موقع دستوري يُفترض أن يكون ممثلاً للتوازن والشرعية، بل تكشف عن خطاب مأزوم يتبنى منطق التهديد والتشكيك، أكثر مما يعكس حرصاً على الدولة ومؤسساتها. الرجل يُتقن لغة التهدئة، لكنه لا يتردد في استخدام خطاب التهديد، يتحدث باسم الدولة، لكنه يلوّح بورقة المكون؛ يطالب بالسلم الأهلي، بينما يوحي بانفجار وشيك في كل منعطف.
هذا المقال يحاول تفكيك خطاب الدكتور المشهداني، لا من باب الشخصنة، بل لفهم البنية السياسية التي يُعبّر عنها؛ بنية تُمجّد الدولة في العلن، وتتحصّن بالمكوّن في الخفاء، وتفتح الأبواب نحو حكومات الطوارئ، في الوقت الذي تدّعي الالتزام بالديمقراطية.
*نبرة إنهزامية - وخطاب يفتقر للتماسك*
الحديث عن "حكومة طوارئ" و"انهيار أمني محتمل" و"تظاهرات شعبية وشيكة"، يعبّر عن نزعة لتضخيم الهواجس الأمنية والسياسية بهدف خلق شعور عام بالخطر. هذا النوع من الخطاب يُستخدم عادة لتبرير تعطيل المسارات الديمقراطية، أو فرض خيارات استثنائية خارج إطار التوافق الوطني.
من جهة يصف البرلمان بأنه "بائس"، ومن جهة أخرى يُحذر من المساس بهوية المكون الذي يتولى رئاسته. يهاجم قوى سياسية ويسعى لمغازلة أخرى، ويتحدث عن الهوية العراقية بـ"سخرية" مما دفعت نواباً للمطالبة بإقالته، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى رجال دولة لا رجال أزمة.
*خطاب الفوضى - وتسييس ملف السجناء*
ربط استمراره في السياسة بـ"خروج آخر سجين بريء"، هو تحويل واضح لملف قضائي إلى قضية سياسية مشروطة ببقاءه، ما يُفقده الحياد ويعطي انطباعاً بتوظيف العدل كأداة للمقايضة لا للإنصاف. كما أن قوله "لو كنا في نينوى 2014 لأصبحنا دواعش حتى لا يُذبح أحدنا"، فيه تبرير خَطِر لسلوكيات جماعات إرهابية، بدلاً من تحديد المجرم والضحية بوضوح.
تحذيراته المتكررة من "انفجار أمني"، و"حكومة طوارئ محتملة"، وتصوير الانقسام السياسي كأنه انهيار وشيك، هي أدوات ضغط سياسي أكثر من كونها تشخيصاً مهنياً للأزمة. يُراد منها تحريك الرأي العام أو الضغط على الخصوم عبر التهويل وتخويف الناس، خصوصاً حين يقول: "لا نريد أن نُسلّم المسدس بيد ابننا فيضربنا"، في تشبيه صادم للحشد الشعبي.
*الحشد الشعبي والازدواجية الواضحة*
في ملف الحشد الشعبي، يتبنى المشهداني خطاباً يعكس ازدواجية ملحوظة: فهو يُقرّ بضرورة حصر السلاح بيد الدولة، لكنه يرفض أي "حلّ" للحشد ويكتفي بالدعوة إلى "ترشيده". هذا التردد يعكس مأزقاً في التصور الأمني، حيث تُركّز القوى السياسية على توازنات القوة داخل الدولة، لا على بناء منظومة أمنية احترافية. الحديث عن الحشد تارة كقوة عقائدية، وتارة كأداة مهددة بالحل الخارجي، يعبّر عن انفعال سياسي أكثر من كونه تصوراً استراتيجياً للأمن الوطني.
*اتفاقية خور عبد الله*
اعتمد المشهداني موقفاً سياسياً حذراً من قضية اتفاقية خور عبد الله مع الكويت. فبينما يتبنى الموقف الشعبي والبرلماني الرافض، يتحدث أيضاً عن التبعات الدولية والضغوط الإقليمية والدولية، خصوصاً من الكويت التي تملك أدوات ولوبيات ضغط دولية. هو يسعى إلى إخراج البرلمان من زاوية الاتهام بالخيانة أو التخاذل، عبر استراتيجية.
رفض برلماني شكلي، وإحالة الموضوع إلى الحكومة والمحكمة الاتحادية لتحمل المسؤولية. إنه يحاول إنقاذ البرلمان من تبعات قرار لم يكن أصلاً مسؤولاً عنه في السابق، وفي الوقت نفسه، لا يريد خسارة العلاقات مع الكويت ولا مع المجتمع الدولي.
*حراك داخل المكون السني*
يكشف الدكتور المشهداني عن توجه جديد داخل المكون السني لتشكيل ما سماه بـ"المظلة السياسية" على غرار "الإطار التنسيقي" الشيعي، لضبط القرار السياسي السني وجعله مركزياً لا فوضوياً. يرى أن المكون السني بحاجة إلى تنظيم داخلي يُبعده عن التبعية لكيانات متنازعة، ويجعله قادراً على التفاوض الموحد بشأن رئاسات الدولة أو الملفات السيادية.
من بين أكثر الطروحات إثارةً في خطاب المشهداني، فكرة تنازل المكوّن السني عن رئاسة البرلمان لصالح رئاسة الجمهورية، ليس من باب تقاسم النفوذ الكلاسيكي بين المكونات، بل من منظور استراتيجي يرمي إلى إعادة تشكيل "الهوية السياسية للسنة" داخل النظام العراقي.
المشهداني لا ينظر إلى موقع رئيس الجمهورية كموقع شرفي تقليدي، بل كمنصة سيادية ورمزية يمكن توسيع صلاحياتها وتحويلها إلى فاعل سياسي تنفيذي له دور في ضبط التوازنات. هذا الطرح يحمل في جوهره نقلة من الدور الرقابي النيابي إلى الفعل التنفيذي السيادي، ويسعى إلى إدخال السنة إلى قلب صناعة القرار الوطني، لا كقوة اعتراض برلمانية، بل كشريك في التوقيع على القرارات المصيرية، ومنها ملف السجناء وقضايا الإعدام، وهي ملفات ترتبط مباشرة برئاسة الجمهورية من حيث التصديق أو وقف التنفيذ.
كما لا يخفي الخطاب وجود رغبة دفينة في إعادة هندسة السلطة التنفيذية ذاتها، من خلال توزيع أدوارها بين رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية، بحيث تُكسر الأحادية التنفيذية، وتُعاد صياغة معادلة الحكم بشكل أكثر توازناً وتمثيلاً، خاصة في مرحلة ما بعد التيار الصدري وارتباك التحالفات الشيعية.
بهذا المعنى، فإن ما يطرحه الدكتور المشهداني لا يقتصر على إعادة ترتيب المواقع، بل يُلمّح إلى مشروع سياسي أشمل لإعادة تعريف وظيفة المكون السني داخل الدولة العراقية، وإدماجه في قلب القرار السيادي، بما يتجاوز حصة المقاعد إلى حضور الهوية والدور والقرار.
*التيار الصدري… قنبلة موقوتة*
يعبّر المشهداني عن قلق حقيقي من غياب التيار الصدري عن العملية السياسية. إذ يعتبره جزءاً أساسياً من التوازن الداخلي، وغيابه يعني اختلال المعادلة الشيعية، التي يتفرج عليها السنة والأكراد من بعيد. غياب الصدريين ـ حسب تحليله ـ سيُفقد النظام السياسي شرعيته التمثيلية، وسيغري دول الجوار والمجتمع الدولي بالتدخل أو فرض تصوراتهم. وهي مغالطة ظاهرية طالما يتمناها المكون السني لضرب التوازن الداخلي.
*العلاقة مع الإقليم الكردي*
أشار المشهداني بوضوح إلى تصاعد أزمة الثقة بين المركز والإقليم، لا سيما في موضوع الرواتب وتوقيت تسليمها. يرى أن الحكومة كانت قادرة على تقديم حل قانوني مرن دون إذلال الأكراد أو دفعهم للتفكير بالانسحاب من العملية السياسية. وهو يحذر من احتمال خروج الكرد من اللعبة، في حال استمرت العقلية المركزية في التعامل معهم بروح ضيقة.
*بين الانسحاب والبقاء*
رغم تأكيده على عدم نيته الترشح مرة أخرى لرئاسة البرلمان، يترك الباب مفتوحاً للترشيح لرئاسة الجمهورية، شرط أن يكون القرار إجماعياً من "المظلة السنية". يتحدث بلغة "الأب السياسي"، لكنه لا يخفي أنه لا يزال لاعباً فاعلاً، ويعرف متى يعود ومتى ينسحب.
*حزام العاصمة تحت خطر الإهمال*
يختم المشهداني برؤية محلية مثقلة بالوهم والتشكيك، حيث يشدد على أن حزام بغداد يتعرض لتغيرات ديموغرافية خطيرة، بعضها نتيجة أخطاء إدارية وبعضها بتأثير جهات أمنية أو سياسية، ما يُنذر بانفجار اجتماعي-أمني إذا لم تتم المعالجة العاجلة. الرسالة الرمزية التي يريد تمريرها هي أن بغداد هي القلب، وإذا انفجر الحزام، ينفجر العراق.