بحث

الاصطفاف الوطني في اليمن: بين إرادة الشعب ومكائد النخب*

عمر العودي

*الاصطفاف الوطني في اليمن: بين إرادة الشعب ومكائد النخب*
دعوات  كثيرة ومتكررة. لاصطفافات وطنية  تحت مسميات مختلفة  الا انها جميعا تحمل نفس الدلالات  ونفس  المقاصد  الا ان مصيرها دائما الفشل   المتكرر. فلماذا تفشل هذه  الدعوات على هذا النحو الماساوي.؟  سؤال سنحاول ان نبحث عن  اجابة  عليه لكن خارج  صندوق النخب السياسية التي تصدرت المشهد  واستاثرت بالسلطة  كونها اكثر  الاصوات التي مزقت اليمن  وعلى رغم ذلك فهي اكثر الاصوات التي تدعو لتوحيد الصف بما يشكل انفصاما فاضحا  في الفكر والاخلاق.  .. 
ان الحديث عن الاصطفاف الوطني في اليمن يتحول، للأسف، من مشروع إنقاذي مُلح إلى مسرح تُحاك فيه أخطر المؤامرات ضد إرادة الشعب وحلم الدولة المدنية الحديثة. فما يُطرح تحت هذا الشعار البراق غالباً ما يكون غطاءً يُخفي وراءه فشلاً ذريعاً للنخب السياسية وتواطؤها الصارخ مع فساد السلطة، بل وتكريساً لهذا الفساد تحت مظلة "الوحدة" وتوحيد الصف الزائفة.

أسباب الإخفاقات المتلاحقة للدعوات  لمشاريع الاصطفاف الوطني  تكمن، أولاً وقبل كل شيء، في طبيعة هذه النخب نفسها. فهي نخب متجذرة في الفساد، تفتقر تماماً للإرادة السياسية الحقيقية لبناء دولة المؤسسات والقانون. مشروع الدولة المدنية، بكل ما يتطلبه من توزيع عادل للسلطة والثروة، وخلق مؤسسات خاضعة للمساءلة، وضمان سيادة القانون، يمثل تهديداً وجودياً لمصالحها الضيقة وسيطرتها القبلية أو المناطقية أو المصلحية. لذلك، نجدها تعمل بلا كلل لتقويض أي جهد جاد في هذا الاتجاه، مستخدمة شعار "الاصطفاف"  والتدثر بالوطنية الزائفة كأداة لمحاصصة المغانم وترسيخ هيمنتها، لا كمنصة لتجسيد الإرادة الوطنية الجامعة.

الأخطر من ذلك هو التخادم الفاضح بين فساد هذه النخب وفساد السلطة، أياً كان موقعها. فهي تشكل معاً حلقة مغلقة من المصالح المشتركة، حيث يتم تبادل المنافع والامتيازات على حساب الوطن والمواطن. السلطة الفاسدة تحتاج إلى شرعية زائفة تقدمها هذه النخب تحت مسمى "الاصطفاف"، والنخب الفاسدة تحتاج إلى غطاء وحماية من السلطة لاستمرار نهبها وتأثيرها. هذه العلاقة التكافلية المرضية هي العدو الحقيقي لأي اصطفاف وطني حقيقي، فهي تحول المشروع الوطني إلى سوق للمساومات والصفقات المشبوهة.

في هذا السياق المريض، يصبح من المستحيل التغاضي أو السكوت عن جرائم السلطة بذريعة الاصطفاف الوطني. فكيف يُطلب من الشعب أن يصطف خلف من سرقوا مقدراته، وقتلوا أبناءه، ودمروا مؤسساته؟ كيف يمكن بناء ثقة تحت مظلة تحمي المجرمين؟ منح الحصانة لأي طرف تمت إدانته بأدلة، سواء كان في السلطة أو في صفوف النخب المتحالفة معها، ليس خطأً فحسب؛ إنه جريمة جديدة تُرتكب بحق الشعب اليمني وضحايا سنوات الصراع والفساد. هذه الحصانات هي إعلان صريح بإفلات المجرمين من العقاب، وهي رسالة مدمرة بأن القتل والنهب والإفساد ستظل وسائل مشروعة للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، ما دامت تُختتم بصفقات تحت الطاولة تمنح الأمان لمن لا يستحقونه. إنها باختصار، حصانة للفساد والجريمة، وطعنة في صميم فكرة العدالة التي هي أساس أي دولة مدنية حقيقية.

إذن، أين يكمن أمل الاصطفاف الوطني الحقيقي؟ إنه بالتأكيد خارج الصندوق الفاسد الذي صنعته النخب السياسية التقليدية. لا بد أن ينبثق هذا الاصطفاف من رحم الإرادة الشعبية المجردة من الولاءات الضيقة، والمستندة إلى مبادئ راسخة:
*   **المواطنة المتساوية:** كأساس وحيد للحقوق والواجبات، تفكيكاً لكل أشكال التمييز القبلي أو المناطقي أو المذهبي التي تستغلها النخب.
*   **سيادة القانون المطلقة:** لا اصطفاف حقيقي دون محاسبة الجميع على قدم المساواة، ورفض أي حصانة تمس مبدأ المساءلة.
*   **الشفافية والمحاسبة:** كآليات غير قابلة للتفاوض في إدارة الشأن العام وأي عملية اصطفاف.
*   **العدالة الانتقالية الحقيقية:** التي تعترف بمعاناة الضحايا وتضمن محاسبة الجناة وتعويض المتضررين، وليس المساومة على دمائهم وأموالهم.
*   **إرادة البناء لا المحاصصة:** التركيز على مشروع وطني جامع لبناء الدولة المدنية الحديثة القائمة على المؤسسات، بعيداً عن توزيع الغنائم والمناصب.
*   **تمكين المجتمع المدني والقوى النظيفة:** باعتبارها الضامن الحقيقي لاستمرارية أي مشروع وطني بعيداً عن تأثير النخب الفاسدة.

الاصطفاف الوطني المنشود ليس تجمعاً للنخب المتصارعة على الكعكة، بل هو تحالف وطني عريض لقوى التغيير الحقيقية، داخل المجتمع وخارجه، ملتزمة بمبادئ العدالة والحرية والكرامة الإنسانية وبناء دولة القانون. مشروع كهذا يتطلب جرأة في فضح الفساد والنخب الفاسدة، وشجاعة في رفض أي مساومة على حساب الدماء والعدالة، وإصراراً على أن يكون الشعب وحده، لا الزعماء الفاسدون، هو صاحب القرار ومصدر الشرعية. فقط عندها يمكن الحديث عن اصطفاف ينقذ اليمن، لا عن صفقة تدفنه.