شذرات إستراتيجية
بسم الله الرحمن الرحيم
مـــصـــطــفـــى بن خالد
تحذير برزاني وسؤال الدولة:
قراءة سيادية في مأزق الشرعية والانفصال
في ضوء المقال الجديد للأستاذ عبدالرحمن الراشد
اليمن بين منطق الإجراء ومنطق الدولة
يقدّم الأستاذ عبد الرحمن الراشد في مقاله الأخير مقاربة أكثر هدوءاً من أطروحاته السابقة حول المسألة الجنوبية، منتقلاً من رفض مبدئي لفكرة الانفصال إلى مناقشة مشروطة لمساراته القانونية، محذّراً من تكرار تجربة كردستان العراق، ومؤكداً مركزية مفهوم "الشرعية الدولية" بوصفه شرطاً لازماً لقيام الدول الجديدة.
ويُحسب لهذا الطرح أنه يحاول إخضاع العاطفة السياسية لمنطق الحسابات الدولية، غير أنه – في المقابل – يقع في اختزال مخلّ حين يُخضع سؤال الدولة اليمنية، بوصفها كياناً سيادياً مركباً، لمنطق إجرائي مؤسسي هش، ويتجاهل طبقات أعمق من الشرعية الدستورية والشعبية والسيادية.
أولاً: الشرعية ليست إجراءً دولياً معزولاً
لا خلاف على أن اعتراف الأمم المتحدة والقوى الكبرى شرط حاسم في قيام الدول الجديدة، غير أن تحويل الشرعية إلى مجرد "ختم دولي" يُفرغها من معناها السياسي الكامل.
فالشرعية، في أصلها، تبدأ من الداخل:
من العقد الاجتماعي، والقبول الشعبي، والبناء الدستوري، قبل أن تنتقل إلى المجال الدولي.
جنوب السودان لم يولد دولة لأن مجلس الأمن وقّع على استقلاله فحسب، بل لأن الدولة الأم وصلت إلى حالة انسداد تاريخي، ولأن الانفصال جاء بوصفه حلاً أخيراً لفشل بنيوي ممتد.
أما تجربة كردستان العراق، التي تُستدعى كثيراً بوصفها نموذجاً تحذيرياً، فلم تفشل فقط لغياب الاعتراف الدولي، بل لأنها تجاهلت معادلات السيادة القائمة، وتوازنات الإقليم، وتعقيد الجغرافيا المتنازع عليها.
والقياس على هذه التجربة دون تفكيك الفروق البنيوية بينها وبين الحالة اليمنية يبقى قياساً انتقائياً لا تحليلاً كاملاً.
ثانياً: الوحدة اليمنية وشرعيتها الدستورية الصلبة
يتطلب أي نقاش جاد حول مستقبل اليمن التذكير بحقيقة قانونية وسياسية مركزية:
أن إعادة الوحدة اليمنية لم تكن بإتفاق نخب، ولا نتيجة توازنات لحظة سياسية عابرة، بل كانت نتاج إجتماعات متواصلة بين شطري الوطن وإجراءات متتالية، تدرجت لسنوات طويلة، تعمدت بالدم واكتملت باستفتاء شعبي عام على دستور دولة الوحدة عام 1991، صوّت عليه اليمنيون بأغلبية ساحقة شمالاً وجنوباً، مانحين الوحدة شرعية شعبية مباشرة لا يمكن القفز عليها.
كما نصّت اتفاقية الوحدة اليمنية صراحة على أن هذه الوحدة اندماجية ودائمة وغير قابلة للتجزئة، وهو ما يجعل أي حديث عن تفكيكها أو إعادة تشكيلها خارج هذا الإطار حديثاً عن حالة انهيار دولة لا عن حق قانوني تلقائي في الانفصال.
وبهذا المعنى، فإن الجنوب اليمني لا يمكن مقاربته قانونياً بوصفه "دولة سابقة تنتظر استعادة سيادتها"، بل كجزء من دولة اندماجية واحدة أُقرّت بإرادة شعبية جامعة.
ثالثاً: المجلس الرئاسي… إشكالية المشروعية لا الإطار
يستند بعض الطرح السياسي المعاصر إلى ما يُعرف بـ"المجلس الرئاسي" بوصفه إطاراً قانونياً يمكن عبره تمرير تسويات مصيرية، بما في ذلك إعادة تعريف شكل الدولة.
غير أن هذا الافتراض يفتقر إلى أي سند دستوري.
فبالعودة إلى الدستور اليمني النافذ، لا وجود لكيان سيادي جماعي يحل محل رئاسة الجمهورية، ولا نص يُجيز نقل السيادة أو تفويضها إلى مجلس غير منتخب.
إن إنشاء المجلس الرئاسي جاء في سياق سياسي استثنائي فرضته ظروف الحرب والضغوط الإقليمية، بوصفه ترتيباً مؤقتاً لإدارة أزمة، لا سلطة دستورية مفوضة بإعادة هندسة الدولة.
وتحميل هذا الكيان صلاحيات سيادية كبرى، أو اعتباره جسراً قانونياً لتفكيك الوطن اليمني، هذا يمثل خلطاً خطيراً بين الترتيبات السياسية المؤقتة والمشروعية الدستورية.
رابعاً: مجلس النواب… انتهاء الولاية وسقوط التمثيل
يفترض بعض الطرح أن موافقة مجلس النواب تمثل غطاءً دستورياً لأي تسوية مصيرية.
غير أن هذا الافتراض يتجاهل واقعاً قانونياً صارخاً:
فمجلس النواب الحالي قد انتهت ولايته الدستورية منذ سنوات، دون تجديد عبر انتخابات أو استفتاء أو نص دستوري صريح، ما يجعل استمراره مخالفاً للدستور ومبدأ التداول.
الأخطر من ذلك أن المجلس فقد نصابه التمثيلي فعلياً، نتيجة وفاة أكثر من ثلث أعضائه وتعطّل قدرته على الانعقاد بوصفه مؤسسة منتخبة فاعلة.
وعليه، فإن الاستناد إلى هذا المجلس بوصفه معبّراً عن "موافقة اليمنيين أو إطاراً قانونياً لإعادة تعريف الدولة، يفتقر إلى أي أساس قانوني أو تمثيلي سليم.
خامساً: الجنوب والشرق ليسا كتلة واحدة ولا تفويضاً مسلحاً
يحذّر المقال من صراع الجنوبيين فيما بينهم، لكنه في الوقت ذاته يفترض، ضمناً، قدرة فاعل واحد على تمثيل الجنوب والشرق والتحدث باسمهما.
وهذه مفارقة جوهرية.
فالجنوب اليمني وشرقه، بتكوينهما الاجتماعي والتاريخي، فضاء تعددي لا يمكن اختزاله في تنظيم سياسي أو عسكري بعينه.
وأي مسار يتجاوز هذه التعددية، أو يفرض مشروعاً سياسياً بقوة السلاح، لن ينتج دولة مستقرة، بل كياناً هشاً قابلاً للتفكك السريع.
ويزداد هذا الخطر حين يمتد هذا الفاعل إلى أقاليم ذات خصوصيات واضحة، كحضرموت، المهرة، شبوة، عدن أبين، بما يحوّل شعار "تقرير المصير" إلى نقيضه:
مصادرة لإرادات محلية تحت غطاء سياسي جامع شكلياً.
سادساً: البديل العقلاني – الدولة الاتحادية لا التفكيك
إن السؤال الجوهري ليس:
هل يمكن للجنوب والشرق أن ينفصلا؟
بل: هل يحتاج اليمن إلى مزيد من التفكيك أم إلى إعادة بناء الدولة؟
هنا تبرز مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، التي توافق عليها اليمنيون جميعاً، بوصفها الإطار الوحيد القادر على استيعاب التعدد دون تمزيق الكيان الوطني.
دولة اتحادية مدنية، بصلاحيات محلية كاملة، تتيح لكل إقليم – بما في ذلك عدن، حضرموت، المهرة – إدارة شؤونه بنفسه بصورة كاملة محلياً، في ظل دولة عادلة، تحفظ وحدة الأرض وتوزيع السلطة والثروة.
سابعاً: التقسيم وإعادة فتح ملفات الحدود الإقليمية
لا يمكن تناول سيناريوهات تقسيم الدولة اليمنية بمعزل عن انعكاساتها الإقليمية، وفي مقدمتها اتفاقيات ترسيم الحدود المبرمة بين الجمهورية اليمنية وكل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان.
فقد وُقّعت هذه الاتفاقيات مع دولة يمنية موحدة ذات سيادة مكتملة، وفي سياق إقليمي هدفه تثبيت الاستقرار وإغلاق ملفات تاريخية حساسة.
إن أي تفكيك للكيان اليمني القائم لا يطرح فقط إشكاليات داخلية، بل يفتح – بحكم القانون الدولي – تساؤلات مشروعة حول مصير الالتزامات السيادية المرتبطة بالدولة الأم، ويعيد إلى الواجهة مطالبات تاريخية ظلت مؤجلة لصالح السلم الإقليمي.
ومن هنا، فإن الحفاظ على وحدة الدولة اليمنية، أو إعادة بنائها ضمن إطار اتحادي جامع، لا يمثل مصلحة يمنية فحسب، بل يشكل أيضاً صمام أمان قانوني وسياسي لاستقرار الحدود الإقليمية، ويجنب المنطقة فتح ملفات لا رابح فيها.
الخلاصة:
بين التحذير والجواب المؤجَّل
يُحسن المقال التحذير من القرارات المتعجلة، ويُصيب حين يؤكد أن الاستفتاء وحده لا يصنع دولة.
غير أن الإشكال الجوهري في مقاربته يكمن في افتراض أن الأزمة اليمنية هي أزمة شرعية وحدة، بينما الواقع يؤكد أنها أزمة دولة غائبة، ومؤسسات منهكة، وعقد وطني لم يُستكمل.
فاليمن لا يفتقر إلى الأساس الدستوري لوحدته، ولا إلى شرعية شعبية أُقرت باستفتاء عام، بل يفتقر إلى استعادة الدولة بوصفها كياناً جامعاً، قادراً على تمثيل مواطنيه، وضبط السلاح، وإدارة التنوع، وصون السيادة.
إن السلام الحقيقي لا يُبنى بتجزئة الهش، ولا بإعادة إنتاج كيانات مؤقتة أو مؤسسات منتهية الصلاحية، بل بإعادة تأسيس الدولة على عقد وطني جامع، يستند إلى الدستور، ويحترم الإرادة الشعبية، ويصون وحدة الأرض والمصير، ويعيد إدماج اليمن في محيطه الإقليمي بوصفه عامل استقرار لا مصدر قلق.
وبين تحذير «غلطة برزاني» وإغراءات الإجراء الدولي السريع، يبقى الخيار الأكثر عقلانية لليمنيين، ولجوارهم، وللمجتمع الدولي، هو ما أقرّه اليمنيون بأنفسهم: دولة مدنية اتحادية عادلة، تُدار من الداخل، وتُحمى بالشرعية، ولا تُقصي أحداً ولا تُجزّئ وطناً.