بحث

اليمن بين فكرة الوحدة وأزمة الدولة: دعوة للتبصّر

أحمد محمد لقمان

لم تكن الوحدة اليمنية، عند إعلانها في مايو 1990، فعل غلبة أو نتيجة إكراه، بل جاءت ثمرة اتفاق سياسي بين قيادتي الشطرين، وتعبيرًا عن حلم جمعي ظل حيًا في الوجدان اليمني لعقود. وقد استقبلها اليمنيون، شمالًا وجنوبًا، شرقاً وغرباً، بترحيب شعبي واسع قلّ نظيره، لأنها لامست إحساسًا عميقًا بالانتماء المشترك، لا مجرد قرار فوقي عابر.

غير أن ما أعقب الوحدة كشف بوضوح أن تحقيق الكيان السياسي أسهل من بناء الدولة. فالأخطاء التي تراكمت لاحقًا لم تكن نابعة من فكرة الوحدة ذاتها، بقدر ما كانت نتاج إدارة سياسية قاصرة، وضعف في بناء مؤسسات جامعة، وتغليب لمنطق القوة على منطق الشراكة، خصوصًا عند أول اختبار حقيقي للخلافات الوطنية.

إن اختزال الأزمة اليمنية اليوم في سؤال “وحدة أم انفصال” يُغفل جوهر الإشكال. فالقضية الأعمق تتمثل في أزمة الدولة الوطنية: دولة لم تنجح في تمثيل جميع مواطنيها بعدالة، ولم تُحسن إدارة تنوعها الجغرافي والاجتماعي والسياسي. ومع مرور الوقت، تحولت المظالم غير المعالجة إلى روافع سياسية، تُستدعى لا لإصلاح الخلل، بل لتبرير صراعات جديدة أو مشاريع تفكيك.

وفي السياق الراهن، لا يواجه اليمن تحدياته بمعزل عن محيطه. فالمنطقة بأسرها تمر بحالة سيولة غير مسبوقة: دول تتآكل من الداخل، وصراعات تُدار بالوكالة، وتراجع لمفهوم الدولة الجامعة لصالح هويات فرعية متنازعة. وفي مثل هذا المناخ، يصبح أي كيان هش — موحدًا كان أم مجزأً — أكثر عرضة للتدخل الخارجي وأقل قدرة على حماية قراره الوطني.

التجارب القريبة في الإقليم تُظهر أن تفكك الدول لا ينتج استقرارًا، بل يعيد إنتاج الأزمات بأشكال أصغر وأكثر استعصاء. فالدولة الضعيفة، مهما كان حجمها، لا تصنع أمنًا ولا تنمية، بل تتحول إلى عبء على شعبها وجوارها معًا. وفي المقابل، فإن استعادة دولة يمنية موحدة لا تعني العودة إلى نماذج مركزية فاشلة، بل تستلزم إعادة تعريف الوحدة بوصفها شراكة عادلة، ونظام حكم لا مركزي حقيقي، وعقدًا اجتماعيًا جديدًا يعترف بالمظالم ويعالجها دون إنكار أو انتقام.

إن الدعوة للتبصّر اليوم ليست دعوة للتمسك بالماضي ولا للهروب منه، بل للنظر بواقعية إلى المستقبل. فاليمن لا يحتاج إلى انتصار طرف على آخر، بقدر ما يحتاج إلى  انتصار فكرة الدولة: دولة تتسع للجميع، وتحتكم للقانون، وتستمد قوتها من رضا مواطنيها لا من فائض القوة.

وفي زمن الاندفاعات الحادة والاستقطابات الصاخبة، قد يكون أكثر المواقف شجاعة هو التمهّل، وإعادة طرح الأسئلة الكبرى بهدوء: أي دولة نريد؟ وكيف نمنع أخطاء الأمس من أن تتحول إلى قدر دائم؟ تلك أسئلة لا تخص اليمن وحده، بل تمس استقرار المنطقة بأكملها، وتستحق أن تُناقش بعقل بارد وضمير حي.

 

آخر الأخبار