بحث

السودان: من الاستقلال إلى الحرب — سبعون عاماً من الفشل (5/5)

عبد العزيز ابوعاقلة

 

السودان: من الاستقلال إلى الحرب — سبعون عاماً من الفشل (5/5)

عبدالعزيز ابوعاقلة                                                       

الجزء الخامس والأخير : لماذا لا تكفي العدالة الأخلاقية… وكيف يمكن إنقاذ فكرة الدولة؟

بعد سبعين عاماً من الفشل، ثورات متكررة،وانقلابات متعاقبة وحروب لا تنتهي، لم يعد السؤال المركزي هو : من المسؤول؟ بل: لماذا تكرر الخسارة حتى حين تكون القضية عادلة؟ ولماذا يفشل السودانيون في تحويل الغضب الشعبي إلى تغيير مستدام، وفي تحويل التضحيات إلى تحول ديمقراطي حقيقي بل الي  دولة عدالة ومساواة ومواطنة حقة وفي تحويل الثورة إلى سياسة؟

أحد أكثر الأوهام رسوخاً في التجربة السودانية هو الاعتقاد بأن عدالة القضية تكفي وحدها. أن الظلم، حين يبلغ مداه، سينهار تلقائياً. لكن التاريخ لا يعمل بهذه البساطة. فالوعي الشعبي، مهما اتسع، لا يتحول آلياً إلى سلطة سياسية مدنية والغضب، مهما كان صادقاً، لا يبني مؤسسات حقيقية . 

غياب الرؤيا  التنظيم والقيادة الواضحة ليس تفصيلاً في الحالة السودانية، بل أحد أعطابها البنيوية. الحراك كان دائماً واسعاً، أخلاقياً، وشجاعاً، لكنه ظل أضعف من أن يحكم. وبين الشارع والدولة فجوة لم تُردم يوماً. كل ثورة وصلت إلى لحظة الاختبار بلا برنامج متفق عليه، ولا قيادة مفوضة، ولا تصور واضح لإدارة السلطة بل  اختلاف في الرؤية وعند هذه النقطة بالضبط، كان العسكر—أو بقايا الدولة القديمة—يدخلون المشهد.

وهنا يتكشّف وهم آخر: وهم التراكم والزمن. طول مسار الثورة لا يعني بالضرورة الاقتراب من النصر. فالتاريخ يعلّمنا أن التراكم بلا مراجعة يتحول إلى استنزاف، وأن الزمن بلا تصحيح قد يعمل ضد أصحابه. ليس كل صبر فضيلة، وأحياناً يكون الإصرار على الأدوات المجربة ذاتها شكلاً من أشكال العمى السياسي.

في المقابل، لا يقل تبسيط أسباب الحرب خطورة. صحيح أن للعسكر والحركة الإسلامية مسؤولية مركزية، لكن اختزال المأساة فيهما وحدهما يُنتج قراءة مريحة لا قراءة صحيحة. فالقوى المدنية، بدورها، أخفقت في تقديم بديل سياسي متماسك، وانشغلت النخب السياسية بالصراعات الداخلية، وراكمت خطابات أخلاقية بلا خطط، وراهن بعضها على الجيش ضد الشارع، ثم على الشارع ضد الجيش، بلا تصور لبناء سلطة مدنية مستقلة فعلاً.

الحرب، في جوهرها، لم تكن مؤامرة فقط، بل نتيجة فراغ سياسي عميق. فراغ في الرؤية، في التنظيم، وفي الإجابة عن سؤال: ماذا بعد السقوط؟ وهذا الفراغ هو ما سمح بتكرار الانقلابات، وتمدد المليشيات، وانهيار ما تبقى من الدولة.

من هنا، لا معنى للحديث عن الخروج من الكارثة من دون طرح سؤال الدولة من جديد، لا كشعار، بل كمشروع وطني تأسيسي. لان الدولة تم بناؤها معوجة والبداية ليست في إسقاط نظام آخر، بل في الاعتراف بالحقيقة التي جرى الهروب منها طويلاً: السودان بلد متعدّد إثنياً وثقافياً ودينياً، وأي دولة لا تبدأ من هذا الاعتراف محكوم عليها بإعادة إنتاج العنف.

التجارب للشعوب وللدول  التي نجحت في الخروج من حروب أهلية أو انهيارات بنيوية لم تنجح لأنها متجانسة، بل لأنها جعلت المواطنة أساس الشرعية والمواطنة ، لا الهوية الأحادية. الدولة السودانية الجديدة لا يمكن أن تُبنى إلا على مفهوم المواطنة الكاملة: حقوق وواجبات لا تُشتق من الدين أو العرق أو الجهة، بل من الانتماء للدولة وحدها. أن يرى كل سوداني نفسه في هذه الدولة، لا كضيف ولا كأقلية محتملة، بل كشريك متساوٍ في العقد الاجتماعي.

ومن هنا يصبح الاتفاق على هوية سودانوية جامعة ضرورة سياسية، لا ترفاً ثقافياً. هوية تعترف بتعدّد الانتماءات، لكنها تخرجها جميعاً من منطق الامتياز السياسي. وهذا يقود بالضرورة إلى فصل الدين عن السياسة فصلاً واضحاً: لا عداءً للدين، بل حماية له من التوظيف، وحماية للسياسة من التقديس. فلا أحزاب دينية في الفضاء السياسي، تماماً كما لا جيوش عقائدية ولا مليشيات مؤدلجة.

وفي بلد بهذا التعقيد، لا يمكن للحكم المركزي الصلب أن يكون حلاً. اللامركزية ليست تهديداً للوحدة، بل شرطها. أن يحكم كل إقليم نفسه بنفسه في إطار دولة قومية واحدة، على أساس وحدة طوعية لا قسرية. فالدولة التي تُدار بالقوة من المركز تُنتج التمرد، أما الدولة التي تُدار بالشراكة فتنتج الانتماء.

لكن لا ديمقراطية بلا اقتصاد عادل. الاقتصاد الريعي المركزي كان أحد أعمدة الدولة الفاشلة، إذ حوّل السلطة إلى موزّع امتيازات، لا إلى منتج فرص. لا يمكن بناء دولة مستقرة من دون تفكيك هذا النموذج، وإعادة توزيع الثروة، وربط التنمية بالأقاليم لا بالمركز وحده.

ويظل حجر الزاوية في أي مشروع وطني  تأسيسي هو إعادة بناء المؤسسات العسكرية والأمنية. لا إصلاح شكلي، بل تأسيس جديد: جيش وطني موحد بعقيدة قتالية قومية، يخضع للسلطة المدنية المنتخبة ديمقراطيا  وتُفكك داخله كل الولاءات الأيديولوجية والجهوية، وشرطة مهنية محايدة تحمي القانون لا النظام. من دون ذلك، ستظل السياسة رهينة للسلاح، وستظل الدولة مؤقتة.

إلى جانب ذلك، لا يمكن بناء وطن جديد بعقل قديم. لا بد من إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي والسياسي بوصفه ذاكرة متنوعة  مشتركة، وتطوير منهج جاد للتربية الوطنية يرسّخ فكرة أن السودان لم يكن يوماً ملكاً لفئة او جماعة ، وأن الاختلاف ليس خطراً، بل شرط حياة.

كل هذه المبادئ لا بد أن تُصاغ في دستور دائم، ناتج عن توافق حقيقي، لا صفقة نخب، دستور يعلو على الحكومات ولا يُعلّق عند أول أزمة. وفوق ذلك كله، تظل العدالة التاريخية شرطاً لا غنى عنه. فلا مصالحة بلا حقيقة، ولا دولة بلا مساءلة، ولا مستقبل مع الإفلات من العقاب.
       
  السودان لا يحتاج إلى ثورة أخرى فقط،
لأن الثورة التي لا تُفكّك القديم تعيد إنتاجه بأسماء جديدة، والغضب الذي لا يتحول الي بناء يصبح وقودا الي حرب قادمة .
السودان يحتاج إلى شجاعة نادرة، شجاعة  الاعتراف بأن الفشل لم يكن قدراً، بل خياراً تراكَم.
وأن الدولة لم تسقط فجأة، بل تُركت طويلاً بلا أساس.
وأن الأخلاق، مهما كانت نبيلة، لا تحكم وحدها،
وأن السياسة، حين تُترك للسلاح أو للعقيدة أو للفوضى، تتحول إلى لعنة.
الانتقال الحقيقي ليس من نظام إلى نظام،
بل من عقلية الهدم إلى عقلية التأسيس،
من رفض الآخر إلى تنظيم الاختلاف،
من الشارع وحده إلى الدولة،
ومن الشعارات العالية إلى العمل الصعب، البطيء، المؤلم.
ما لم يجرؤ السودانيون—نخباً وقوى حية—على تفكيك القديم جذرياً:
تفكيك دولة الامتياز،
وتفكيك قداسة العسكر،
وتفكيك تديين السياسة،
وتفكيك الوهم بأن الزمن وحده سيحل ما عجزنا عن مواجهته،
فإن كل ثورة ستظل ناقصة،
وكل سلام مؤقتاً،
وكل دولة مشروعاً مؤجلاً.
هذه ليست دعوة لليأس،
بل تحذير أخير قبل تكرار الكارثة.
إما دولة تُبنى بوعي، وعدالة، وتنظيم،
أو بلدٌ يظل يدور في الحلقة نفسها،
ثورة… انقلاب… حرب…
ثم سؤال متأخر: كيف وصلنا إلى هنا؟
والحقيقة القاسية أن السودان لن يُنقَذ مرة أخرى بالنية الحسنة،
بل بقرار شجاع بأن هذا المسار يجب أن ينتهي الآن ،،.                                                                      عبدالعزيز ابوعاقلة                                                        azizabuaglah@gmail.com

آخر الأخبار