إلى أين نمضي؟
حين تصبح حياة الناس أرخص من الرصاص، فنحن لا نعيش حوادث معزولة، بل ننزلق في مسارٍ خطير يهدد ما تبقّى من المجتمع.
جريمة شارع خولان، التي قُتل فيها زوجان بدمٍ بارد أمام أطفالهما، ليست سوى مرآة فاضحة لحالٍ وصلنا إليه: سلاح منفلت، عدالة متعثرة، طمأنة غائبة، وغضب شعبي يتراكم في الصدور.
اليوم يُقتل هشام وزوجته…
وغداً من؟
وأين؟
وبأي ذريعة؟
الأخطر من الجريمة نفسها هو ما بعدها.
فالاحتقانات تتراكم، والصمت المؤقت، أو الرضوخ تحت وطأة الظلم، لا يعني أبداً أن المجتمع في مأمن؛ بل هو تأجيل لانفجارٍ أشد، ليس في هذه الجريمة وحدها، بل في سلسلة جرائم بلغت حداً لا يُطاق ولا يمكن السكوت عنه.
كأننا نُدفع دفعاً إلى مربع الفوضى، حيث تتحول الشوارع إلى ساحات تصفية، والمجتمع إلى قنبلة موقوتة. وهذا هو الخطر الحقيقي، الذي لا يجوز التعامل معه بنداءات مناطقية، ولا باستغلال سياسي رخيص لتصفية الخصوم، أو بتحميل الجريمة جغرافيا السيطرة هنا أو هناك لمجرد وقوعها في منطقة ما.
ما نفتقده اليوم هو الرؤية العقلانية التي تتجاوز العاطفة، وتؤصّل بوعيٍ عميق لمخاطر العنف والظلم والاستبداد وانهيار السلام الاجتماعي؛ ذلك السلام الذي يتآكل بصمت، بينما ينصرف الاهتمام كلياً إلى تداعيات الحرب والصراع السياسي، ويتراجع دور المراكز الاجتماعية والتنويرية عن مسؤوليتها في حماية ما تبقّى من نسيج المجتمع.
السلام الاجتماعي منظومة متكاملة. سلامٌ قائم على الاستقرار والوئام والعدل، وشعور بالأمن والحقوق، وحلّ للنزاعات بالقانون والحوار لا بالعنف، واحترام للتنوع، ونبذ للظلم، وتعزيز للتعايش السلمي. وهو الشرط الأول لأي تنمية أو بقاء.
ومع تحجيم دور العقول المستنيرة، وتنامي الجريمة، وغياب العدالة، أصبح السائد - للأسف - التلذذ بوجع الناس، وفوضى التهميش والإقصاء، واللامبالاة بالعنف، وغضّ الطرف عن مرتكبيه لأي دوافع كانت: سياسية، مناطقية، مذهبية… مع استخفافٍ مخيف بتبعات هذا التآكل الخطير للسلام الاجتماعي، وتجاهلٍ لآلام من نفد صبرهم.
انعدام الأمن الشخصي والمجتمعي له تكلفة باهظة يدفعها الجميع: أسر مكلومة، مجتمع مشحون، قضاء تتآكل هيبته، وأطفال يُربَّون على الخوف لا على الطمأنينة.
الأمن ليس منّة، بل حق إنساني أصيل قبل أن يكون دينياً؛ فالدين حين يُختطف، يتحول إلى مطيّة بيد الجلادين تُوظَّف لخدمة أجنداتهم.
ملاذنا الحقيقي هو الوعي الإنساني؛ وعيٌ يرفض تبرير القتل، ويُعلي قيمة الإنسان، ويضغط من أجل محاسبة عادلة، ويكسر دائرة الصمت والخوف، لأن العدالة وحدها هي التي تطفئ النار من جذورها.
وحين تغيب المحاسبة الجادة وتتكرر الجرائم بلا حسم، تصل للناس رسالة واحدة: لا أحد في مأمن. وحين يغلق باب الإنصاف أيضاً أمام المظلومين، تتحول الفوضى إلى قدرٍ يلتهم ما تبقّى من نسيجٍ اجتماعي على امتداد الوطن.
وأقول الوطن لأن الجرائم متشابهة، ولأن هذه المرحلة أفرزت عنفاً لم تكن العقول تتصوره. الإعدام الميداني في شبوة ليس ببعيد، وهذا الشهر وحده قُتل عشرات نعرفهم ومن لا نعرفهم؛ أخبارهم تنزف على صفحات التواصل يوماً بعد آخر، بينما تنتهج المحاكم سياسات مخزية لا تخدم العدالة.
لن أنسى دموع أبٍ قُتل ابنه ظلماً، يرى قاتله خارج القضبان يسرح ويمرح، فيما تعيش الأسرة في سجن الظلم: مرارة الفقد، ومرارة التقاضي، وأجور المحاكم، والتطويل غير المدروس، الذي يراكم اليأس ويخلق تمرداً ذاتياً للبحث عن الحق بطرقٍ لا تُحمد عقباها.
والجريمة ليست حِكراً على مكانٍ دون غيره، ولا وليدة سلطة بعينها.
الجريمة منتشرة في كل ربوع الوطن.
وبات القتل أهون – لدى الجميع – من منشور على فيسبوك، أو خلافٍ عابر، أو مزاجٍ متقلب لمتنفذ.
وحين لا يجد المظلوم عدالةً حقيقية، تصبح الفوضى - كما أسلفنا- خياراً مفروضاً لا رغبةً مختارة.
عندها لن يكون السؤال: من القاتل؟ بل: من التالي؟
الثمن، كالعادة، سيكون دماً جديداً…
وتستمر المأساة.
(نقلاً عن الوحدوي نت)..