السودان: من الاستقلال إلى الحرب — سبعون عاماً من الفشل ( 5/ 3)
عبدالعزيز ابوعاقلة
& جيش بلا دولة… ودولة تخلّت عن مواطنيها
نواصل في الجزء الثالث من هذه السلسلة الخماسية ……لم تكن الانقلابات العسكرية في السودان مجرد حوادث طارئة في تاريخ مضطرب، بل كانت، منذ وقت مبكر، تعبيراً عن فشل السياسة في أن تكون وسيطاً عقلانياً لإدارة الصراع. في كل مرة عجز فيها المجال المدني عن حسم خلافاته داخل قواعد متفق عليها، ظهرت البندقية كحل بديل، لا بوصفها انحرافاً مؤقتاً، بل كأداة سياسية دائمة. هكذا، لم تعد الانقلابات استثناءً، بل تحوّلت إلى لغة حكم.
من انقلاب الفريق إبراهيم عبود، مروراً بنميري، وصولاً إلى انقلاب الحركة الاسلاميه الكارثي في 1989، ثم انقلاب البرهان وحميدتي في 2021، ظل المشترك بينها جميعاً هو الفكرة ذاتها: حين تفشل السياسة، تُدار الدولة بالقوة. لكن انقلاب 1989 لم يكن مجرد حلقة إضافية في هذه السلسلة، بل شكّل تحولاً بنيوياً عميقاً في علاقة الجيش بالدولة والمجتمع. ففيه لم تستولِ مؤسسة عسكرية على السلطة فحسب، بل استولت حركة أيديولوجية على الجيش نفسه، وأعادت تشكيله وفق أجندتها التي تخدم امتيازاتها فقط .
منذ ذلك التاريخ، لم يعد الجيش السوداني مؤسسة وطنية قومية تتغوّل أحياناً على السياسة، بل أصبح—بدرجات متفاوتة—جزءاً من مشروع أيديولوجي، جرى فيه إحلال الولاء محل المهنية، والعقيدة الحزبية محل العقيدة الوطنية. لم يعد السلاح أداة لحماية الدولة، بل رأسمالاً سياسياً يُستخدم لحماية شبكة مصالح تشكّلت عبر التمكين، والاقتصاد الموازي، وتديين الصراع.والبطش ما هو معارض لهذا الاتجاه .
يقول ماكس فيبر إن الدولة الحديثة تقوم على احتكار العنف المشروع، لكن المأساة السودانية أن هذا العنف احتُكر دون أن يُقيَّد بإطار مدني أو دستوري. لم يخضع للمساءلة، ولم يُربط بحماية المجتمع، بل جرى توظيفه في صراع السلطة، ثم في صراع البقاء وحماية التنظيم ومن هنا يصبح مفهوماً لماذا ظل أي انتقال مدني حقيقي تهديداً وجودياً لهذه البنية، ولماذا قوبلت كل محاولة لإخراج الجيش من السياسة بانقلاب أو إفشال.
الأخطر من ذلك أن هذا المسار لم يكن مفروضاً بالقوة وحدها، بل شُرعن سياسياً. نخب مدنية انتهازية ، وطائفية، وأيديولوجية، رأت في الجيش أداة لتصفية خصومها أو لإعادة ترتيب المشهد لصالحها. وهكذا تحوّل الانقلاب من جريمة ضد الدولة إلى خيار تكتيكي. لم يعد السؤال: هل هذا انقلاب؟ بل: لمن يخدم؟
مع مرور الوقت، لم يُعِق الجيش التحول المدني الديمقراطي فقط عبر الانقلابات، بل عبر إعادة تشكيل الوعي السياسي نفسه. ترسّخت قناعة أن المدنيين عاجزون، وأن الاستقرار لا يأتي إلا من الثكنات، وأن الحرية مخاطرة زائدة. وكما تقول هانا آرنت، حين تحكم القوة، تختفي السياسة، ويتحوّل العنف من وسيلة إلى غاية.
لكن ذروة هذا الانحراف تتجلى اليوم في المفارقة الأكثر فداحة: جيش يدّعي حماية الوطن، ثم ينسحب من المدن، ويترك المدنيين العزّل لمصيرهم. هنا لا نكون أمام خطأ عسكري أو تقدير تكتيكي، بل أمام انهيار أخلاقي لفكرة الدولة نفسها. فالجيش الذي يتخلى عن حماية السكان لا يفشل في أداء مهمة فحسب، بل يتنازل عن مبرر وجوده.
الدولة الحديثة لا تُقاس فقط بقدرتها على احتكار العنف، بل بقدرتها على توجيهه لحماية الحياة. وحين يتحول العنف إلى أداة صراع سلطوي أو أيديولوجي، يصبح المواطن خارج المعادلة. في هذا المنطق، لا تُرى المدن كفضاء يجب حمايته، بل كعبء عسكري، ولا يُرى المدني كغاية، بل ككلفة جانبية. لذلك يصبح الانسحاب من المدن “خياراً”، حتى لو كان ثمنه القتل والنهب والتشريد.
لا يمكن فصل هذا السلوك عن الإرث الذي تأسس منذ انقلاب الحركة الإسلامية 1989. فالمؤسسة التي أُعيد بناؤها على أساس الولاء الأيديولوجي، لا ترى في السلام قيمة بحد ذاته، بل خطراً. وقف إطلاق النار لا يُنظر إليه كفرصة لإنقاذ المدنيين، بل كتهديد يعيد السياسة إلى الواجهة، ويُعيد طرح الأسئلة المؤجلة: لمن هذا الجيش؟ من يحمي من؟ ولمصلحة أي مشروع تُدار الحرب؟ وما هو الوطني وما هو المتمرد ؟
في هذا السياق، تصبح الحرب نفسها وسيلة بقاء. بيئة مثالية لتعطيل السياسة، وتهميش المدنيين، وتقسيم السودانيين ومنطقة الوطنية امتياز لهم وحدهم وتعليق المساءلة، وإعادة تعريف الوطنية بلغة السلاح. وحين تختلط البندقية بالعقيدة، يصبح إشعال الحرب أسهل من إيقافها، لأن السلام يعني نهاية الدور، وبداية الحساب.
الانقلاب الأخير قبل الحرب لم يكن فقط إسقاطاً لمرحلة انتقالية هشة، بل تفجيراً للتناقضات المتراكمة داخل مؤسسة أنهكها الصراع بين دورها المفترض كجيش دولة، ودورها الفعلي كحارس لإرث أيديولوجي. وعندما انفجرت هذه التناقضات، لم يبقَ مكان للدولة ولا للسياسة، بل لسلاحين يتصارعان فوق أنقاض وطن متكاثر بهم لحرب هذه المرة شاملة في كل بقعة في الوطن .
تاريخ السودان مع الانقلابات ليس تاريخ عسكرة السياسة فقط، بل تاريخ أدلجتها عبر السلاح، وتاريخ تخلي الدولة عن مواطنيها باسم السيادة. وما لم يُفصل الجيش نهائياً عن أي مشروع أيديولوجي، وما لم يُعاد بناؤه من جديد كقوة مهنية قومية خاضعة لإرادة مدنية ديمقراطية، فإن الحديث عن وقف دائم للحرب سيظل وهماً.
فالدولة لا تُبنى ببندقية مؤدلجة،
ولا تُحمى بجيش ينسحب من مدنه،
ولا تُستعاد بسياسة تخشى مواجهة جذور الكارثة. ( نواصل ). عبدالعزيز ابوعاقلة