دولة لم تُؤسَّس… فأنجبت حرباً.
ليست الحرب التي يعيشها السودان اليوم انفجاراً مفاجئاً في مسار مستقر، ولا انحرافاً طارئاً عن تاريخ طبيعي. إنها النتيجة الأكثر منطقية لمسار طويل من الهروب الفكري والسياسي، هروبٍ مارسته النخب منذ لحظة الاستقلال من السؤال الأخطر: كيف تُؤسَّس دولة على أسس سليمة في بلد شديد التعقيد؟ منذ 1956 لم يكن الخلل في غياب الشعارات ولا في نقص الخطابات، بل في العجز عن مواجهة الأسئلة التأسيسية، وفي استسهال القفز فوقها نحو صراع السلطة. حتى لو صنعت مليشيات من اجل الاستحواذ على السلطة والموارد.
في السودان لم تكن الحرب نقيض السياسة، بل استمرارها بوسائل أخرى، بل صورتها العارية حين تفشل في تنظيم الاختلاف. وكما قال كارل شميت حين تعجز السياسة عن إدارة الصراع، يعود الصراع إلى شكله البدائي: القوة. هذا ما جرى بالضبط. لم تُبنَ قواعد مشتركة للعبة السياسية، فصار السلاح هو القاعدة الوحيدة.
منذ الاستقلال، لم يكن السؤال المركزي المطروح هو: ما هي الدولة التي نريدها؟ بل: من يحكم الآن؟ وهنا تكمن المأساة. سؤال الدستور، طبيعة النظام، علاقة الدين بالدولة، إدارة التعدد، موقع الجيش، وحدود السلطة… كلها قضايا أُجّلت عمداً، لا جهلاً بها، بل خوفاً من نتائجها. الإجابة الصريحة كانت ستفرض قيوداً على النخب، وتنتزع امتيازات، وتغلق الطريق أمام الانقلابات، لذلك كان التأجيل هو الخيار الأسهل، والأكثر كلفة.
تحوّلت السياسة في السودان من فعل تأسيسي إلى مناورة مؤقتة. لم تُستخدم لبناء دولة، لتحول مدني ديمقراطي حقيقي بل لتفادي بنائها. كل أزمة كانت تُدار كحدث معزول، لا كعرض لخلل بنيوي. وكل صراع كان يُختزل في أشخاص، لا في بنية. وهكذا تراكم الفشل دون أن يُسمّى باسمه.
النخب السياسية، على اختلاف تياراتها، لم تكن ضحية هذا المسار، بل شريكاً أصيلاً فيه. حين فشلت في إدارة خلافاتها داخل المجال المدني، استدعت الجيش كحَكَم. وحين ضاقت بها صناديق الاقتراع، فتحت أبواب الثكنات. باسم الاستقرار جرى تبرير الانقلابات، وباسم إنقاذ الدولة جرى تسليمها للمؤسسة العسكرية. وكما قال بيير بورديو، أخطر أشكال العنف هو ذلك الذي يُمارَس باسم النظام.
بهذا المعنى، لم تكن الانقلابات العسكرية في السودان انحرافاً عن المسار، بل تحوّلت إلى نمط حكم. لم تحدث فقط لأن الجيش قوي، بل لأن السياسة كانت ضعيفة، عاجزة عن إنتاج شرعية مستقرة، وغير راغبة في توطين الديمقراطية داخل أحزابها نفسها. ومع كل انقلاب كانت الدولة تُفرَّغ من معناها أكثر، ويُهمَّش الدستور، وتُكسر الحياة الحزبية، ويُعاد تعريف الوطنية على مقاس البندقية. وحين تحكم القوة، كما تقول هانا آرنت، تختفي السياسة.
تدريجياً، لم يعد الجيش أداة في يد الدولة، بل صارت الدولة ملحقاً بالصراع داخل المؤسسة العسكرية نفسها. صراع بلا أفق، بلا رقابة، وبلا مساءلة. ومع كل جولة، كان المجتمع يدفع الثمن، حتى انفجرت الحرب الأخيرة بوصفها ذروة هذا المسار لا استثناءه.
لكن فجيعة الحرب لا تكمن فقط في خراب المدن وتشريد الملايين، بل في انكشاف الفشل الأخلاقي العميق، خطابات الكراهية الاصطفاف القبلي الهوياتي، تقسيم السودانيين. فشل في حماية المدنيين، فشل في تقديس الحياة، فشل في الاعتراف بأن الدولة ليست غنيمة يتقاسمها المتصارعون. وكما كتب فالتر بنيامين، كل وثيقة حضارة تحمل في طياتها وثيقة بربرية. والمواطن الأعزل اليوم يرى هذه الحقيقة بلا أقنعة: ما رُفع باسم الدولة انقلب إلى آلة تدمير، وما سُمّي سيادة انتهى إلى تهجير وخراب.
تتكرر الكارثة لأن الأسئلة ذاتها لم تتغير، ولأن الهروب منها أصبح ثقافة سياسية راسخة. ظل بناء الدولة مشروعاً مؤجلاً، بينما كانت السلطة مشروعاً عاجلاً. والحرب، في هذا السياق، ليست قدراً ولا لعنة جغرافيا، بل نتيجة منطقية لمسار طويل من اللاقرار التأسيسي الوطني. سمحت للوصاية والأطماع الإقليمية والعالمية.
السودان لم يفشل لأنه بلد معقّد، بل لأنه بلد تُرك بلا تفكير جاد في أسسه. وما نراه اليوم ليس انهيار دولة قائمة، بل انكشاف حقيقة دولة لم تُنجَز أبداً.