بحث

السودان: من الاستقلال إلى الحرب — سبعون عاماً من الفشل (1/5)

عبد العزيز ابوعاقلة

 

السودان: من الاستقلال إلى الحرب — سبعون عاماً من الفشل   (1/5)

 

عبدالعزيز أبوعاقلة | Abdelaziz Abuaglah

مقدمة ضرورية: حين تصبح الكتابة كشفاً للذات

هناك لحظات في مسار الأمم لا يعود فيها الكلام سياسياً، بل يتحوّل إلى مساءلة أخلاقية وفلسفية.
لحظات تُجبر فيها الشعوب على النظر إلى نفسها بلا مكياج، وبلا بطولات مفتعلة، وبلا خوف من الحقيقة.

والسودان اليوم يقف أمام مرآة تفضح كل شيء.
سبعون عاماً من الاستقلال لم تُنتج دولة، بل سلّمتنا إلى حرب تُشبه النهاية أكثر مما تُشبه التحوّل.

لكن هذا الانهيار ليس ابن اللحظة.
إنه امتداد لصراع قديم: صراع الهوية والأرض، وصراع الموارد.
كل ما نعيشه اليوم — من تفكك الدولة إلى الإسفاف القبلي — ليس سوى طبقة أخيرة فوق تاريخ لم يُفكَّك بعد.

قال أنطونيو غرامشي:

“الأزمة تحدث حين يموت القديم ولا يستطيع الجديد أن يولد.”

وفي السودان، لم يمت القديم تماماً، ولم يولد الجديد إطلاقاً، لأن الجذور نفسها كانت فاسدة:
هوية بلا أرض، وأرض بلا عقد اجتماعي.

خطيئة التأسيس: هوية مفروضة على جغرافيا لا تشبهها

منذ ما قبل الاستقلال، لم يكن سؤال الهوية في السودان سؤالاً فلسفياً مفتوحاً، بل إعلاناً جاهزاً:
السودان عربي–إسلامي.

هذا الإعلان لم يولد من الأرض، ولا من التاريخ الاجتماعي، ولا من الثقافة، بل من خيال النخب.
في بلد التنوع، حيث تعايشت ثقافات النوبة، والفونج، والبجا، والفور، والمسيرية،، والدينكا، والشلك، والمستعربين، اختارت النخب تعريف السودان على طريقة الإسقاط لا الاعتراف.

وهنا يبدأ أصل الصراع.

يقول تشارلز تايلور:

“الدولة التي تفرض هوية لا تعترف بالأرض، تخلق مواطنين معلّقين في الفراغ.”

وهذا ما حدث بالضبط.
هوية “مستوردة” فُرضت على جماعات متجذّرة في أرضها منذ آلاف السنين، فولدت فجوة بين الذات المجتمعية والذات السياسية.

وبدلاً من دولة تراعي التنوع التاريخي والمعاصر، دولة “سودانوية”، حصلنا على ساحة نزاع بين المركز والهامش، بين هوية مفروضة وأرض ترفض الخضوع.

الأرض كمسرح للهيمنة: من السلطنة الزرقاء إلى الاستعمار إلى الخرطوم

منذ القدم، كانت الأرض في السودان مركز السلطة.
من يسيطر على الأرض يسيطر على الناس والموارد، ومن يسيطر على الناس يصنع “هوية سياسية”.

هكذا فعلت السلطنة الزرقاء، ثم التركية–، ثم المهدية، ثم الاستعمار الإنجليزي.
لكن ورثة الاستقلال لم يفهموا هذا الدرس.

لم يسألوا: كيف نبني دولة تشبه أرضها؟
بل سألوا: كيف نجعل الأرض تشبه هويتنا المتخيّلة؟

ومع الزمن، صار المركز (الخرطوم) يتصرّف باعتباره مالك الهوية، وصارت الأطراف مجرد ملحقات.
فتكاثرت النزاعات حول الأرض، من الجنوب إلى دارفور، إلى جبال النوبة، إلى النيل الأزرق، وكلها تتغذّى على السؤال ذاته:
من يملك الأرض؟
ومن يملك الحق في تعريف البلاد؟

لقد تحوّل تاريخ السودان إلى سلسلة محاولات لفرض معنى واحد على جغرافيا متعددة.

الإسلام السياسي: رفع الهوية إلى مطلق… وترك الأرض للخراب

حين جاءت الحركة الإسلامية، رفعت الهوية إلى مستوى “المطلق”، وأعادت تعريف الدولة بالدين، لا بالأرض.
وبعد انفصال الجنوب، قيل إن البلد أصبح “صافياً” وجاهزاً لتطبيق الشريعة.

لكن ما الذي تغيّر على الأرض؟
لا شيء.

تقول هانا آرنت:

“حين تتحول السياسة إلى حرب مقدسة، تصبح الأرض مجرد غنيمة.”

وبالفعل، صارت الأرض غنيمة:
تُوزَّع الولاءات، تُصنع المليشيات، تُباع الموارد، وتُحتل المدن.

الهوية هنا لم تعد مشروعاً أخلاقياً، بل أداة للسيطرة.
فانفجرت الصراعات في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وكلها تتحدث بلسان واحد:
الهوية التي فُرضت من فوق لا تشبه الأرض التي نعيش عليها.

من التمييز إلى التفكك: ولادة الإسفاف القبلي

حين تفشل الدولة في الاعتراف بالأرض، يلتجئ الناس إلى أصغر وحداتهم: القبيلة.
وهذا ما حدث بوضوح في حرب 2023.

لم يعد السوداني يعرف نفسه كمواطن، بل كعضو في كيان قبلي مسلّح.
انهارت “الهوية الوطنية المصنوعة” لأنها لم ترتكز على أرض حقيقية ولا على عقد اجتماعي.

وانفجرت القبائل في وجه بعضها لأن الدولة تركت الأرض بلا عدالة، بلا خدمات، بلا ملكية واضحة، وبلا أمن.

القبيلة ليست المشكلة؛
المشكلة أن الدولة حين غابت، لم يبقَ للناس سوى القبيلة.
وحين تُستَخدم القبيلة كسلاح سياسي، تنتج الإسفاف القبلي:
خطاب كراهية، تطهير، عنصرية، وعودة إلى ما قبل الدولة.

الحرب الحالية: الأرض تُعلن انتقامها

حرب 2023 ليست مجرد معركة بين جيش ومليشيا.
إنها إعلان انهيار العقد بين الأرض والهوية.

إنها لحظة انفجار تاريخ طويل من التناقض:
هوية سياسية لم تُبنَ على جغرافيا المجتمع، وجغرافيا مجتمع لم يعترف بها النظام السياسي.

كل مدينة اليوم مسرح صراع على الأرض والموارد،
وكل مجموعة تبرر وجودها بهوية ما، وكأن الحرب تقول لنا:
أعيدوا تعريف أنفسكم من جديد.
أعيدوا وصل الهوية بالأرض.
أعيدوا بناء الدولة على أساس الاعتراف لا الإقصاء.

نحو تفكير جديد للدولة

هذه ليست كتابة للّوم، بل محاولة للفهم.
والفهم — كما قال يورغن هابرماس — هو الخطوة الأولى للمصالحة مع الذات.

الفكرة المركزية الآن بسيطة ومخيفة معاً:
لا دولة بلا أرض،
ولا أرض بلا هوية عادلة،
ولا هوية بلا اعتراف.

السودان لن يُشفى بالخطابة،
ولا بالمشروعات العقائدية،
ولا بالقوة العسكرية.

بل بشجاعة مواجهة أصل الصراع:
مواجهة الجذور،
وإعادة تعريف السودانيين على أرضهم،
وبناء دولة تعترف بكل الهويات، لا واحدة فوقها جميعاً.

والسودان اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج إلى الحقيقة والتحليل الفكري.
لا إلى الخطابة…
ولا إلى التجميل…
بل إلى الجرح مكشوفاً، حتى نعرف كيف نُوقف النزيف.

(نواصل)
Abdelaziz Abuaglah                                                           azizabuaglah@gmail.com

آخر الأخبار