بحث

من رمزية ألاسكا إلى براغماتية واشنطن: مسار القمم بين المسرح والاختبار | قراءة تحليلية

يحيى الضبيبي

لم يكن المكانُ تفصيلاً ثانويًا؛ ألاسكا ليست مجرّد ولايةٍ قصيّة على خارطةٍ باردة، بل ذاكرةٌ روسيةٌ أميركيّة مشتركة، جرى فيها تبادل التاريخ والجغرافيا والهيبة. 

فمنذ كانت مستعمرةً روسيّة في القرن الثامن عشر وانتهت صفقتها إلى الولايات المتحدة عام 1867، بقيت ألاسكا «جرحًا جماليًا» في المخيال الروسي ودليلاً ماديًا على اقتراب الجارين اللدودين حتى تلامس جزيرتا ديوْميد الصغرى والكبرى عبر مضيق بيرينغ. 

وعليه، بدا اختيار ألاسكا مسرحًا للقاء ترامب–بوتين تحريكًا متعمّدًا لكل هذا الإرث الرمزي، وتذكيرًا بأنّ خطوط التماس بين البلدين أعمق من صخب الحرب الأوكرانية وأكثر قدمًا من أزمتها الراهنة. 

فوق ذلك، يوفّر المكان «درعًا قانونيًا» لبوتين في ظلّ مذكرة المحكمة الجنائية الدولية الصادرة عام 2023؛ فالولايات المتحدة لا تُقرّ باختصاص المحكمة، ما يبدّد أيّ تعقيداتٍ بروتوكولية قد تُعطّل اللقاء، كما رأينا في سوابق سياسية قريبة تتعلق باستقبال مطلوبين للمحكمة في واشنطن. هذه كلها إشاراتٌ حمّالةُ أبعاد، لا في فن اختيار المسرح فحسب، بل في صناعة رسائل ما قبل التفاوض وما بعده. 

القمة التي انعقدت في قاعدة «إلمندورف–ريتشاردسون» العسكرية، جاءت بعد سنوات من التوتر الحاد بين واشنطن وموسكو منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، ما جعلها محطة اختبار استراتيجي لإمكانية «إعادة ضبط» العلاقات الثنائية، وإعادة تعريف حدود النفوذ في أوروبا الشرقية.

ولأن الرمزية تحتاج إلى سندٍ واقعي، انعقدت القمة داخل قاعدة «إلمندورف–ريتشاردسون»؛ أكبر منشأةٍ عسكريةٍ في الولاية، محوطةٌ بتجهيزاتٍ تمنح أعلى درجات الأمن والعُزلة، ومتصلةٌ بسلاح الجو الأميركي الأكثر تطورًا. ذلك الاختيار يوصل رسالتين متوازيتين: صلابة القدرة الأميركية المُستعرضة بهدوء، وحرصٌ بالغٌ على إنجاح محادثاتٍ توصف بأنها الأهم بين الغرب وروسيا منذ اندلاع حرب فبراير/شباط 2022. 

 

الإطار السياسي: سقوف منخفضة وتوقعات متحركة

دخل الطرفان قاعة التفاوض تحت سقفٍ مقصود الانخفاض. تصريحاتٌ أميركية تحذّر من الإفراط في الرهان، وآراءٌ تحليلية في واشنطن تميل إلى الاعتقاد بأنّ موسكو قد تخرج مكسبًا سياسيًا من صورة «العودة إلى طاولة الندّية» مع رئيسٍ أميركي عائد إلى البيت الأبيض، خاصة وأنّ أوكرانيا ليست طرفًا حاضرًا في القاعة ولا ضامنًا لمخرجاتها.  

وفي الخلفية، تتردّد مواقفٌ أميركية تُظهر استعدادًا لطرق أبواب «التبادلات الإقليمية» كجزءٍ محتمل من أيّ تسوية - وهو ما لمح إليه ترامب بقوله إن قرار الانخراط في «تبادل أراضٍ» يعود لأوكرانيا نفسها - بما يفتح نافذةً صغيرة على مسارات تفاوضٍ غير تقليدية، ويثير في الوقت ذاته قلق كييف وحلفائها الأوروبيين من كلفة أيّ هندسة حدوديّة جديدة.  

تأكيد ترامب أنه «لن يفرض شروطًا على أوكرانيا» بدا في ظاهره حياديًا، لكنه ترافق مع إشارته إلى «فرص الأعمال التجارية بعد انتهاء الصراع»، وهو ما يعكس براغماتيته التي تضع المصلحة الاقتصادية فوق الاعتبارات الأخلاقية. أما بوتين فقد استعان بخطابٍ تاريخي حين قال «نحن جيران» للتذكير بأنّ أوكرانيا مجال حيوي لمصالح روسيا، مقدّمًا نفسه في صورة الباحث عن الحل السلمي رغم التفوق العسكري الروسي الميداني.

قبل القمة، صاغت كييف «أمنياتٍ مشروطة» بأن تمهّد ألاسكا لطريق سلامٍ عادل، مع التأكيد على ضرورة إشراكها في أيّ صيغةٍ ثلاثية لاحقة؛ فيما أعاد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر تذكير الغرب بالمعنى القيميّ للحرب الأوكرانية بوصفها امتدادًا لمعارك «القيم الحليفة» في الحرب العالمية الثانية. هذه الأصوات تُشكّل سياجًا سياسيًا لترامب، وتبعث إشاراتٍ واضحة لبوتين بأنّ أيّ ترتيباتٍ تُطبخ بعيدًا عن أعين كييف وعواصم أوروبا لن تكون قابلةً للحياة طويلًا.  

 

صورة المشهد: تفاصيلُ تشكّل السردية

مشهديًا، رُتِّبَتْ التفاصيل بعناية: استقبالٌ بروتوكولي، مصافحةٌ علنية، انتقالٌ في سيارةٍ واحدة إلى مقرّ القمة، ثم غرفةٌ مغلقة تُسجّل ثلاث ساعاتٍ من المحادثات «المفصّلة» وفق توصيف بوتين، و«تقدّمٍ كبيرٍ» من دون خوضٍ في تفاصيل وفق تعبير ترامب، قبل مؤتمرٍ صحفي مقتضب بلا أسئلة. هكذا تُدار «قاعات الاختبار الأولى» عادة: تُبنى فيها الثقة الشكلية، وتُقاس فيها مساحات اللغة، وتُستكشف «حدود الحرج» و«هوامش الممكن». وفي الخارج، احتجاجاتٌ في أنكوراج تُعيد التذكير بأنّ الحرب ليست مجرّد بندٍ تفاوضي، بل جرحٌ أخلاقيٌّ ومعيشيٌّ حيّ في وعي الرأي العام. كل ذلك يرسم لوحةً تقول إنّ الإدارة الصورية للمشهد جزءٌ لا يتجزّأ من مقاصد القمة.  

وفي المشهد أيضًا، كان الاستعراض العسكري الأمريكي - طائرات «إف-22» و«بي-2 الشبح» - رسالةً محسوبة لبوتين بأنّ واشنطن تفاوض من موقع قوة، وأن ألاسكا ليست مجرد رمز تاريخي بل عقدة استراتيجية في صراع القطبين. 

كما تكشف تركيبة الوفدين عن «توازن الملفات»: من الجانب الروسي حضر وزراء الخارجية والدفاع والمالية، ومستشارو السياسة الخارجية والتعاون الاقتصادي - في إشارةٍ إلى أنّ البحث لم يكن أمنيًا محضًا، بل اقتصاديًا أيضًا، يلامس العقوبات وممرّات الاستثمار والموارد. وعلى الضفة الأخرى، أحاط ترامب نفسه بفريقٍ يتقدّمه وزير الخارجية ومبعوثٌ خاص ووزراء الخزانة والتجارة والدفاع، بما يشي بأنّ واشنطن أرادت إظهار جاهزية «عابرة للملفات»، من تمويل الحرب وحوكمتها إلى الأمن والحدود. بهذا المعنى، جاءت القمة «صندوقَ أدوات» أكثر منها «مسرح إعلانٍ كبير».  

 

المقايضات الخفية: تشريح «صفقة الظل»

يُمكن تلخيص «صفقة الظل» التي كانت تتحرك بين أسطر التصريحات في ثلاثة محاور: 

أوكرانيا: وقفُ نارٍ مُشروط أم خريطةُ تعديلات؟ 

الطرح الواقعي الذي يتردّد في واشنطن يُبقي الباب مواربًا أمام «تعديلاتٍ ميدانية» تُترجم إلى ترتيباتٍ سياسية، مع إبقاء السقف المعلن على «سلامٍ عادل». موسكو ستدفع باتجاه ضماناتٍ أمنية معتبرة، وتثبيت مكاسب ميدانية بصورةٍ من الصور. كييف بدورها تُمسك بعصا «اللاّتنازل» من جهة، وحاجةٍ مُلحّة إلى رافعةٍ أميركية من جهةٍ أخرى. هنا، القيمة المضافة لألاسكا أنّها تُعيد فتح قناة تفاوض مباشرة على مستوى القمّة، بما يقلّل تكاليف الوساطات الطويلة ويُسرّع اختبار العناوين الحسّاسة: الأمن حول خاركيف، وضع زابوريجيا، وخطوط التماس في الدونباس. 

العقوبات والاقتصاد

حضور المالية والتجارة من الطرفين يوحي بإمكانية هندسة «ممرّاتٍ تنفيسيّة» محدودة لاقتصاد روسيا مقابل سلوكياتٍ قابلةٍ للرصد (خفض وتيرة الهجمات في جبهاتٍ بعينها، أو توسيع قنوات تصدير الحبوب/الطاقة بشروط). هذا النوع من «المقايض الناعم» لا يحتاج إعلانًا صارخًا؛ يكفيه أن تُرفع عقبةٌ هنا وتُخفّض عقوبةٌ هناك، فتتبدّل المؤشرات ببطءٍ محسوب. 

 

الأمن الاستراتيجي: من «تدبير المخاطر» إلى «ترميم الأطر»

استحضار ملف المعاهدات النووية كان حاضرًا في الإشارات الأميركية، ولو على مستوى التلميح. ما بعد ألاسكا قد يشهد ورشاتٍ فنية لإحياء قنوات الحد من المخاطر النووية والتفاهم على قواعد اشتباكٍ أوضح في الجوّ والبحر، خصوصًا في مسارح شمال الأطلسي والقطب الشمالي حيث الاحتكاك «المنخفض الكلفة–عالي المخاطر».  

ماذا تغيّر بعد القمة؟

بالقياس إلى نتائج اللقاء الأول، خرجت موسكو بعبارة «مفاوضات مفصلة وبنّاءة»، وخرجت واشنطن بعبارة «تقدّمٌ كبير» مع الإقرار بوجود عقدٍ باقية. الفارق بين الصيغتين مهمّ: الأولى تُسجّل لموسكو كسبًا رمزيًا (نحن أعدنا أميركا إلى طاولةٍ تُناقش هواجسنا الأمنية)، والثانية تحفظ لواشنطن أريحية «التدرّج» (لا التزامات نهائية، بل اختبار نوايا). هذا التوازن في اللغة جزءٌ من إدارة التوقعات: لا خسائر علنية، ولا مكاسب صادمة. ومن علامات المقصديّة أن المؤتمر الصحفي جاء مقتضبًا وبلا أسئلة، وأنّ مأدبة الغداء المشتركة أُلغيت لاحقًا، كإشارةٍ إلى إبقاء ملفّاتٍ للمداولات الداخلية وعدم الإفراط في «تجميل» المشهد.  

السياسة كفنّ إدارة الزمن

وفقًا لما تم الإشارة إليه، فإن «ألاسكا» تعد نقطةُ تحوّلٍ إجرائية: أعادت تركيب «ساعة الأزمة» بحيث يتحوّل الزمن من خصمٍ على الجميع إلى موردٍ تفاوضيٍّ مشترك. موسكو تحتاج إلى نافذةٍ تكسر بها حلقة الاستنزاف الاقتصادي والضغط العسكري المتنامي على بعض الجبهات، وواشنطن تحتاج إلى مسارٍ يضبط كلفة دعم أوكرانيا ويعيد تعريف «النصر الممكن» بعيدًا من الشعارات القصوى التي لا تجد طريقًا سهلاً إلى التنفيذ. وترامب أيضًا يبحث عن إنجاز انتخابي يعزز صورته كـ«صانع سلام». أما كييف، فتحتاج إلى تضامنٍ ملموسٍ لا يُختزل في حضورٍ رمزيٍّ أو غيابٍ قسريٍّ عن الطاولة، بل في ضماناتٍ قابلة للتحقق على الأرض. 

وبهذا المعنى، فإنّ الاختبار الحقيقي لما بعد ألاسكا سيكون في التفاصيل الصغيرة: هل سنرى تباطؤًا قابلًا للقياس في وتيرة العمليات على جبهةٍ محدّدة؟ هل ستظهر «فتحاتٌ» في جدار العقوبات تُترجم إلى إشاراتٍ مُلتقطة في أسواق الطاقة والمال؟ هل تُستأنف قنوات الاتصال النووية والفنية بانتظام؟ تلك «أمارات الطريق» التي يجب ترقّبها خلال الأسابيع المقبلة لتقييم ما إذا كانت القمة دشّنت مسارًا تفاوضيًا جادًا أم اكتفت بإعادة «تأطير الصورة». 

وإذا نجحت القمة في تمهيد الطريق لقمة ثلاثية بمشاركة أوكرانيا، قد تبدأ مفاوضات حساسة حول «تبادل أراضٍ» أو ضمانات أمنية. أما الفشل فسيعني العودة إلى نقطة الصفر مع تصاعد العمليات العسكرية في الشرق الأوكراني.  

من زاوية أوسع، أوروبا تبدو متوجسة من «صفقة ترامب–بوتين»، وقد تسارع إلى زيادة دعمها العسكري لكييف لتعزيز موقفها التفاوضي، فيما تراقب الصين بصمت لترى كيف سيؤثر تقارب أو تنافر موسكو وواشنطن على توازناتها الاستراتيجية. 

بين التكتيك والاستراتيجية

من خلال نتائج القمة فإنها أقرب إلى «قمة تكتيكات» منها إلى اتفاق استراتيجي شامل. تفاؤلٌ حذر، رسائل متبادلة، ورمزية مسرحية عميقة… لكنّ غياب إطار زمني وآلية تنفيذ واضحة يجعلان النتائج هشّة. والأيام المقبلة وحدها ستكشف إن كانت هذه الخطوة مجرد مناورة ظرفية أم بداية لتحوّل جيوسياسي حقيقي. 

ومن المؤكد أن ألاسكا تُذكّرنا بأنّ السياسة الدولية ليست حساب مصالحٍ صامتًا فقط؛ إنّها أيضًا مسرحٌ للأخلاق العامة وللرموز. احتجاجات أنكوراج، ومطالب كييف بسلامٍ «عادل»، واستدعاء الذاكرة الأخلاقية للحرب العالمية الثانية، كلّها عناصر تصنع كُلفة القرارات وتُعلّم الساسة حدّ المناورة. وكما أنّ تقارب ديوْميدَين لا يُلغي اتساع المحيط، فإنّ مصافحة ترامب وبوتين لا تُنهي حربًا، لكنها قد تُدشّن «لغةً» جديدة لإدارتها. هناك، في المسافة بين الجزيرة الصغيرة والجزيرة الأكبر، يقف العالم اليوم مترقّبًا: هل يضيقُ المضيق أكثر، أم تتّسعُ فيه ممرّات العبور؟ 

 

ما بعد ألاسكا… «واشنطن» بوصفها غرفةَ القياس الأولى

لم تكن «قمة واشنطن» بين دونالد ترامب وفولوديمير زيلينسكي ومعهما كتلةٌ أوروبيةٌ رفيعة مجرد امتدادٍ بروتوكولي لِما بدأ في ألاسكا؛ كانت اختبارًا عمليًا لترجمة الرمزية إلى أدوات تفاوض. ذهب الأوروبيون مجتمعين - ماكرون، ميرتس، ستارمر، ميلوني، ستوب، فون دير لاين، والأمين العام للناتو مارك روته - لتثبيت شرطٍ بسيطٍ في ظاهره صعبٍ في تطبيقه: وقفُ إطلاقِ نارٍ قبل أيِّ قمةٍ ثلاثية أميركية - روسية - أوكرانية.  

هذا الخط المطلبي يقف في مقابل نزوع ترامب إلى «اتفاقٍ شامل» لا يشترط هدنةً مسبقة، وهو نزوعٌ عبّر عنه علنًا خلال لقاء المكتب البيضاوي.  

كما أن الأوروبيين أثنوا على فكرة «ضمانات أمنية» تُصمَّم لأوكرانيا، لكنهم شددوا على أن طريقها يمر عبر تهدئة ميدانية أولًا.

في التفاصيل التي صنعت سرديةَ قمة الأمس: خرج ترامب من الاجتماع المشترك ليتصل بفلاديمير بوتين، في خطوةٍ صارت جزءًا من «لغة الضغط» داخل القاعة أكثر من كونها إجراءً لوجستيًا باردًا؛ وهي خطوة أكدتها مصادر أوروبية وغطتها وكالاتٌ كبرى. وبعدها قال ترامب إنه بدأ ترتيب لقاءٍ مباشر بين بوتين وزيلينسكي يليه اجتماعٌ ثلاثي إذا توفرت شروطه.  

وقد انعكس ذلك في روايةٍ متماسكة داخل تغطياتٍ عدة بأن البيت الأبيض صار منصة اختبار لفتح قناة بوتين - زيلينسكي خلال «أسبوعين» وفق تقديراتٍ ألمانية أولية. 

إطار الضمانات: «ناتو بلا عضوية» أم مظلة هجينة؟

أكثر ما خرج متماسكًا من هذه القمة هو عنوان «الضمانات الأمنية». قال ترامب إن الولايات المتحدة «ستساعد أوروبا» في توفير مظلةٍ لأوكرانيا ضمن تسويةٍ لاحقة، بصيغةٍ تُظهر حمولةً أوروبيةً أكبر ودورًا أميركيًا ضابطًا. بالنسبة لباريس، الترجمة بسيطة: لا حديث عن تنازلاتٍ إقليمية كأساسٍ للضمانات، بل عن جيشٍ أوكراني «قابل للصمود» بلا قيود عددية أو نوعية، وهو ما نُقل عن ماكرون صراحةً.   

أمّا داخل القاعة نفسها، فقد رُفِع سقف الاتحاد الأوروبي لفظيًا إلى الحديث عن ضمانات «مماثلةٍ» في مقصدها لروح المادة (5) من ميثاق الناتو — تشبيهٌ سياسي أكثر منه التزامًا قانونيًا — لكنه يعكس رغبة بروكسل في تدوير زوايا بين الردع والشرعية.  

مبادرة كييف المضادة  

كييف جاءت هذه المرة بعرضٍ «براغماتي»: تعهّدٌ بشراء ما لا يقل عن 100 مليار دولار من منظومات السلاح الأميركية — بتمويل أوروبي — مع شراكةٍ مُكمِّلة بقيمة 50 مليار دولار لإنتاج المسيَّرات مع شركاتٍ أوكرانية. الهدف مزدوج: تثبيت شراكةٍ صناعية تُغري ترامب اقتصاديًا، وبناء عتبة ردعٍ تُغلق باب «التنازلات الإقليمية». هذا التصور، الذي كُشف في وثائق اطّلعت عليها «فايننشال تايمز» وتابعه تقارير وكالات كبرى، يطلب ضماناتٍ أميركية–أوروبية ما بعد الحرب دون اعترافٍ بخسارة الأرض.  

خطوطٌ حمراء أوروبية… ومقاربةُ «وقف النار أولًا»

على الضفة الأوروبية، خرج ميرتس بنبرةٍ صلبة: لا أحد يُجبر كييف على التنازل عن «دونباس»، وتشبيهُه الأمرَ بتخلي الولايات المتحدة عن «فلوريدا» كان رسالة رأيٍ عام بقدر ما كان موقفًا تفاوضيًا؛ ومع ذلك أوضح أن ملف التنازلات لم يُبحث مباشرةً في جلسة البيت الأبيض.  

وتلقّى هذا الخط دعمًا فرنسيًا واضحًا حين أكد ماكرون أن مسألة «التنازلات» لم تُطرح على الطاولة، وأن النقاش انصرف إلى هندسة الضمانات وقابلية الجيش الأوكراني للصمود.  

دلالة الاتصال المباشر: إدارةُ التوقيت ورسمُ الإيقاع

اتصالُ البيت الأبيض ببوتين خلال الاجتماع ـ كما يرى مراقبون ـ تجاوز مجرد أن يكون «اختراقٍ زمني» للجدول؛ إلى كونه أعاد توزيع الأدوار في اللحظة ذاتها: أوروبا تدفع نحو هدنةٍ مسبقة، وترامب يبرهن لبوتين - بحضور الأوروبيين - أنه قادرٌ على إدارة «قناةٍ ساخنة» وفورية. هذه «اللفتة» تُسجَّل لموسكو كدليل على أن واشنطن تأخذ هواجسها مباشرة، وتُسجَّل لترامب كرأس مالٍ تفاوضي داخلي: أنا من يملك مفاتيح البابين.  

وقد انعكس ذلك لاحقًا في إعلانه بدء الترتيب للقاء بوتين–زيلينسكي، تمهيدًا لثلاثيّةٍ مشروطة، كما أشرنا سابقًا.

«اقتصاد» السلام: صفقاتٌ بدل الشعارات

إذا كان «سلامُ ألاسكا» رمزيًا، فإن «سلامَ واشنطن» مشروطٌ بالأرقام. العرض الأوكراني الضخم يقدّم مسارًا يوفِّق بين مصلحة الصناعة الأميركية وحاجة أوروبا إلى ردعٍ سريع التمويل. لكنه يكشف في الوقت ذاته هشاشةَ التخطيط الأوروبي إذا تراجعت واشنطن خطوةً إلى الخلف؛ تحليل «رويترز بريكينغ فيوز» يقول بوضوح إن أوروبا، رغم تصدّرها الآن في إجمالي الدعم، تفتقر إلى خطةٍ مكتملة لما بعد أي انكفاءٍ أميركي.  

على طاولة الأسابيع المقبلة: أماراتُ المسار أم إشاراتُ مناورة؟ 

تثبيت موعد لقاء بوتين - زيلينسكي «خلال أسبوعين» كما نُقل أوروبيًا، وما إن كان سيفضي حقًا إلى هندسةٍ ثلاثية لاحقة أم سيبقى «صورةً مُدارة».  

ملامح حزمة الضمانات: ما إذا كانت «مظلّةً هجينة» (أوروبية التمويل والتنفيذ/أميركية الضبط) أم صيغةَ «ناتو بلا عضوية»، ومدى قبول موسكو بها كورقةِ خروجٍ من الحرب دون رفع الراية. 

 

مؤشراتُ تهدئةٍ قابلة للقياس: انخفاض وتيرة الضربات على جبهاتٍ بعينها مقابل تقدمٍ في قنوات التسوية، أو العكس؛ وهنا سيكشف الميدان صدقيةَ التعهدات.  

 

مسار العقوبات: بين تهديدٍ فرنسي بتشديدها إذا تعطّلت الدبلوماسية، وأبوابٍ «تنفيسية» محدودة يُمكن أن تُفتح مقابل سلوكٍ يمكن رصده.  

 

وخلاصة المشهد المحدث، بعد هذه القمة الجديدة، أن ما جرى في واشنطن لم يُبطل رمزية ألاسكا بل أعاد توجيهها: من «فنّ المسرح» إلى «هندسة الأدوات». أوروبا تُمسك بسقف «الهدنة أولًا» وتُقاوم أيّ هندسة حدودية مفروضة؛ كييف تقترح «اقتصاد ضمانات» يشتري الردع ويؤجِّل الجدل الأخلاقي حول الأرض؛ وترامب يراهن على دبلوماسيةٍ سريعة الحركة، عالية الصورة، تُترجم إلى ترتيبَيْن متتاليَيْن: لقاء ثنائي، فثلاثي، فصفقة. 

وما يزال الطريق محفوفًا بإشاراتٍ متناقضة، لكن معيار التقييم بات أوضح: موعد اللقاء المنتظر، شكل الضمانات، وإشارات الميدان والمال… عندها فقط نعرف إن كانت «ألاسكا–واشنطن» بدايةَ مسارٍ تفاوضيٍّ جاد، أم مجرّد إعادة رسمٍ مؤقتة لإطار الصورة. 

 

كاتب وصحفي يمني 

باحث في الشؤون السياسية والاقتصادية 

 

نقلاً عن "الوحدوي نت".

 

آخر الأخبار